سياسة

حكومة “شد الأرض”: زادوا فالثمن، منعوا الإضراب، وشرّعوا الفساد!

ضربة قلم

آه، حكومة الباطرونا… تجربة سياسية بطعم الغلاء، ورائحة القمع، ولون الشك. حين يتحدث التاريخ عن هذه الولاية، فلن يحتاج إلى كثير من التحليل أو الجدل. الأرقام تتحدث، الأجور تتآكل، النقابات تنام نوما عميقًا، والمواد الاستهلاكية تمارس رياضة القفز العالي، قفزاتٌ بلغت عنان السماء وتركت المواطن المسكين يتفرج من تحت، حافي الجيب ومكتوم الصوت.

لن ننسى أن أول ما فعله أهل “المال والمال فقط” هو مصادقة التاريخ على نظرية طالما راودت الشارع المغربي: “إذا حكمتنا المحلبة، فانتظر الزيادات بالجملة”. والزيادة لم تأتِ هادئة أو متدرجة كما يليق بالمسؤولية، بل جاءت كأمواج تسونامي لا تبقي ولا تذر. البوطا؟ قنبلة زمنية مؤجلة. الحليب؟ صار سلعة فاخرة. الزيت؟ أصبح يُشترى كأنه ذهب أصفر، أما الخضر والفواكه فحدث ولا حرج، حتى “اللوبيا” لم تسلم من طموحات السوق المفتوح والربح المغلق على حساب المستهلك المغلوب.

لكن الاقتصاد، مهما تغوّل، لا يعطينا صورة كاملة. فالمشهد السياسي كان أكثر سوداوية من لوحات “بيكاسو” بعد الحرب. الإضراب، ذلك الحق الدستوري الذي مات قبل أن يبلغ سن الرشد، تم اغتياله قانونيًا. كيف؟ عبر تمثيلية نقابية باردة، كأنك تشاهد مسرحية مدرسية دون جمهور، إلا أن الفرق الوحيد أن الجمهور هنا موجود، لكنه يتفرج من خلف القضبان المجازية، مقموعًا، مكممًا، ومحشورًا في زوايا “السكوت أحسن”.

النقابات؟ باعت الماتش، وباعته بثمن بخس، وكأنها تعلم أن لا صوت يعلو فوق صوت “الأواكس النقابي” الذين نزلوا بالمظلات، لا لينقذوا العمال، بل ليعيدوا ضبط إيقاع الطاعة. تحوّل العمل النقابي إلى فلكلور موسمي، يؤدى كل فاتح ماي، وتُرفع فيه شعارات مستعملة أكثر من أحذية عمال المناجم.

أما الحديث عن مكافحة الفساد، فهنا يصل العبث قمته. أُقرت قوانين لا يعلم عنها أحد شيئا، قوانين كأنها طلاسم فرعونية، لا يعرف كيف كتبت ولا متى نشرت، فقط نعلم نتيجتها: “سدّ عينك، ودخل سوق راسك”. ما دام الشعب لم يعد يعترض، فلِمَ لا يُطلق العنان للنهب؟ اتركوا السوق يتحدث، واتركوا اللصوص يحكمون، فالجمعيات المناهضة للفساد لم يعد لها من حضور سوى اسمها على الورق، وكأن الفساد أصبح من حق المواطن في السلطة، كما الماء والكهرباء.

في هذه التجربة الحكومية، لم نرَ إصلاحًا، بل رأينا ترقيعًا بيد، وصفعات متتالية باليد الأخرى. حكومة لم تكتفِ بإضعاف الجبهة الاجتماعية، بل جعلت من “السكوت” سياسة عمومية، ومن “التطنيش” ثقافة سياسية. كلما اشتكى المواطن، قيل له: “شد الأرض، راك فنعمة مقارنة مع دول أخرى!”، وكأن معيار النجاح هو أن تكون أقل فقرًا من جارك الجائع.

وها نحن نكتب، ولسنا بحاجة إلى بلاغ رسمي كي نعرف ما ينتظرنا بعد نهاية هذه الولاية. أخنوش سيرحل، أو يُرحّل، وسيتكلف غيره بمواصلة المهمة: مهمة القمع الاقتصادي، إخماد النبض الشعبي، وتخدير الشارع. لا أوهام لدينا، فقط ذاكرة مريرة وشعور بأن الوطن صار شركة متعددة الرؤوس، فيها المواطن مجرد رقم استهلاك لا صوت له ولا رأي.

تذكّروا جيدًا هذا الزمن، لأنه سيكون مرجعًا في كتب التاريخ حين يُسأل الأطفال في امتحاناتهم:
“في عهد من تم قمع الإضراب، ورفعت الأسعار، وتحولت النقابات إلى تماثيل ديكور؟”
والجواب سيكون واحدًا: حكومة الباطرونا… حين تواطأ المال مع السلطة، وأُعلنت الحرب على الكرامة.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.