مجتمع

حياة كلّ واحد منّا: الرواية التي نكتبها دون أن ندري

م-ص

حياة كلّ واحد منّا رواية تستحق الكتابة، لا لفرط شهرتها أو اكتمال فصولها، بل لأنها كتبت بحبر المعاناة، وطبعت على ورق القلب، وشُطِبت بعض سطورها بالدموع أو بالخيانة، بينما ظلّت سطور أخرى مضيئة بلقاءات، بلحظات فرح عابرة، أو بأناس طيّبين مرّوا كنسمة صيف، غيّروا فينا الكثير ورحلوا دون ضجيج.

نعيش، لا لأنّ الحياة سهلة أو عادلة، بل لأنّنا نتقن التكيّف. نبتسم ونحن نحمل شروخًا غير مرئية، ونمضي في الطرقات نفسها التي شهدت هزائمنا الكبرى وانتصاراتنا الصغيرة. في كلّ واحد منّا طفل خُذل في لحظة ما، وشابٌ آمن بحلم خذله، وكهلٌ لا زال يبحث عن معنى لما فاته. كم مرّة قلنا “هذه النهاية”، ثم اكتشفنا أن النهاية التي ظنناها نهائية، كانت مجرّد فاصلة… فصل آخر كان بانتظارنا، أكثر قسوة أحيانًا، وأحيانًا أكثر نضجًا.

في حياتنا أشخاص لا يُنسون، لا لأنّهم مثاليون، بل لأنّهم حضروا حين خفت الجميع، مدّوا أيديهم عندما كنا على وشك الغرق، وعلّمونا الفرق بين من يحبك لأنك قوي، ومن يحبك رغم ضعفك. هناك أصدقاء يشبهون الصفحات البيضاء، لا يضيفون دراما لروايتك، لكنك لا تطيق فقدانهم، لأنّ وجودهم يجعل الرواية محتملة، حتى في أسوأ فصولها. وهناك أصدقاء غادروا مبكّرًا، قبل أن يكتمل حوار، أو يُقال وداعٌ لائق. أولئك يخلّفون فجوات لا تملأها السنوات ولا الأشخاص الجدد. فقط نعتاد الفراغ، كما نعتاد الغياب، حتى نصير محترفين في الحديث عنهم بصيغة الماضي دون أن تدمع العين… لكن القلب، يبكي في صمت.

وكم من مرة خُدعنا بأقزامٍ ارتدوا أقنعة الكبار، واعتقدنا أن لهم قامة في القيم، فإذا بهم يسرقون منّا الثقة، ويبيعوننا بثمن زهيد في سوق المصالح. هؤلاء علمونا أن ليس كل من يبتسم صديق، وأن الخنجر غالبًا لا يأتي من الخلف، بل من يد أمسكتها مرارًا في عزّ سقوطك. ومع ذلك، لا نندم على ثقتنا، بل نندم على الوقت الذي أضعناه في تبرير خيبتنا، في حين كان علينا فقط أن نغلق الصفحة ونمضي.

لكن الرواية ليست كلّها وجع. فيها لحظات من نور، من دفء الأم، من حضنٍ قديمٍ لا زال يحمينا في الذّاكرة، من كلمة “أنا معك” قيلت في وقتها، من غروب شمس شاركناه مع من نحب، من قبلةٍ صغيرة على جبين الحياة تجعل كلّ شيء ممكنًا من جديد. هذه اللحظات، وإن كانت قليلة، فإنها تشبه العناوين التي لا تُنسى. هي التي تعطينا سببًا للكتابة، للاستمرار، للغفران، وللحب مجددًا، رغم كلّ الخيبات.

نحن مدينون للذين مرّوا ولم يتركوا فينا سوى أثر طيب. مدينون لأشخاص آمنوا بنا ونحن لا نؤمن بأنفسنا، علّمونا كيف نرى الجمال في أبسط الأشياء، وكيف نحفر من الصخر حياة تليق بنا. نذكرهم كلّما ضاقت الأرض، ونهمس: “لو كانوا هنا…” ثم نبتسم لأن أثرهم ما زال يعيش فينا، ويكفينا.

كلّ هذه الفصول، السعيدة منها والحزينة، التافهة والعميقة، هي ما يصنع روايتنا. لا حاجة لأن تكون كاملة أو مكتملة، بل أن تكون صادقة. فالحياة لا تُكتب مثلما نرغب، بل مثلما نعيش. وكلّ واحد منّا، مهما كان بسيطًا أو صاخبًا أو عاديًا في نظر الآخرين، يحمل داخله قصة، رحلة، صراع، حب، وأمل… حكاية لم تُرو بعد. حكاية تهمّ صاحبها أكثر من أيّ قارئ محتمل.

فليكن فينا من الشجاعة ما يكفي لنكتب روايتنا كما هي، بلا تزويق، بلا حذف الفصول القبيحة، لأنها جزء من جمال الحقيقة. فكلّ سطر عِشناه كان يستحق أن يُكتب، وكلّ لحظة واجهناها بصدق، كانت صفحة تستحق الحفظ في كتاب الحياة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.