حين كنا نعود من المدرسة في الظلام… والأمهات لم تكن تتكلمن كثيرًا

ضربة قلم
قديماً، في أواخر الستينات، وحتى الأجيال التي ولجت المدرسة الابتدائية في السبعينات والثمانينات، كان الذهاب إلى المدرسة رحلة بمفردنا، مغامرة صغيرة تتطلب شجاعة وجرأة. كنا نخرج صباحًا بلا مرافق، نقطع الأزقة، نركض وراء الحصص، ونتبادل الحكايات مع الأصدقاء، ونعود أحيانًا حتى بعد غروب الشمس، أي مع الساعة السادسة والنصف مساءً، وسط الظلام الذي كان بالنسبة لنا رفيقًا طبيعيًا، لا مصدرًا للخوف. كان هذا اعتمادنا على الثقة بالنفس قبل أن يعرف العالم كله معنى “الأمان الرقمي” أو “المصاحبة الحازمة للأطفال”.
أما اليوم، فالأمر يبدو مختلفًا بشكل صارخ، حتى أصبحنا نتساءل: هل ما يحدث طبيعي أم مرضي؟ ظاهرة خروج الأمهات جماعات مع أطفالهن، في طلعات تبدو أحيانًا أشبه بجولات لمراقبة الأحياء أكثر من كونها طريقًا للتربية، جعلت من الأحاديث اليومية متنفسًا رئيسيًا، لكن محتواها غالبًا فارغ. تتحدث الأمهات عن كل شيء، إلا ما يهم الطفل فعليًا: لا عن الأخلاق، ولا عن الثقافة، ولا حتى عن قصة السلام التي حاول يكتب لها نهاية ريغان وغورباتشوف، بل عن خرافات وملاحم صغيرة لا علاقة لها بالواقع، وكأن العالم توقف عند شباك المحادثة.
ومفارقة أكثر، أن الانحراف في أيامنا لم يكن بالحدة التي يعرفها الشباب اليوم. كنا نعرف حدودنا، ونميز بين الخطأ والصواب. لو سمعنا أن فلانًا اعتقله الأمن، حتى لو كان لمجرد تحقيق هويته، كنا نجتنب معاشرته ظنًا منا أنه أصبح مشبوهاً. أما اليوم، حتى رجال السياسة من آخر الزمان، يدخلون السجون، يقضون عقوبات، ثم يعودون إلى المجالس وهم يستعرضون عضلاتهم الهشة، مكتوب عليها سوابق عدلية، كأنها وسام شرف أو بطاقة مرور للكرسي السياسي.
لكن لنكن منصفين، أمهاتنا، رحمهن الله، لم يكن لهن ذنب، لم تكنَّ تتكلمنَ كثيرا، بل كن أكثر حكمة، مما نتخيل. لم يكن شيوع ظاهرة اصطحاب الأطفال على شكل قوافل خارجية مبررًا للتهور، ولم يكن الحديث الفارغ مبررًا لقضاء الوقت على حساب التربية الحقيقية. كانت الحياة أبسط، والحدود واضحة، والمسؤولية عن الطفل تُمارس بعقلانية وهدوء.
اليوم، يختلط كل شيء، فالمسؤولية مع الفوضى، والأمان مع الخوف، والأحاديث مع الفراغ. نعود للتساؤل بسخرية مُرة: هل نحن أمام عصر جديد من التربية أم مجرد نسخة مطورة من القلق والثرثرة؟ يبدو أن التقدم المادي لم يأتِ بالضرورة مع تقدم في الحكمة، وأن الأطفال، رغم كل الوسائل، أصبحوا يختبرون العالم قبل الأوان، في وقت لم نكن نحن فيه مستعدين أصلاً لتفكيك لغز الحياة المبكر.




