سياسة

حين يتحول الرئيس من خادم للمواطنين إلى خادم لمصالحه: كيف تُباع الجماعات في المزاد السري؟

ضربة قلم

رئيس جماعة ترابية دخل عالم السياسة بوجه متواضع، يخاطب الناس بلغتهم، يشاركهم أفراحهم وأحزانهم، يلوّح بيديه بحرارة لكل من يمر بجانبه. كان يبدو من صنف أولئك الذين جاءوا لخدمة الوطن، لا لخدمة حساباتهم البنكية. لكنه اليوم، وبعد سنوات في المنصب، لم يعد ذاك الرجل البسيط، بل صار واحدًا من أباطرة الصفقات المشبوهة، يحيط نفسه بمستشارين يجيدون التفاوض على كل شيء… إلا مصلحة المواطن!

التمسكن قبل التمكّن: كيف يُطبخ الظفر بالصفقات؟

إذا كنت تعتقد أن الحصول على عقود شركات النظافة أو تدبير النفايات أو المشاريع الكبرى في كثير من المدن والجماعات الترابية يتم عبر المنافسة الشفافة، فأنت تعيش في المدينة الفاضلة، وليس في الواقع! الطريق إلى العقود المليونية ليس بالكفاءة، بل بـ “التمسكن حتى التمكن”.

المرحلة الأولى: التودد والتقرب من “مول الشكارة
قبل أن يصبح الرئيس رئيسًا، يكون في حاجة إلى من يُموّل حملته الانتخابية. وهنا يظهر اللاعب الكبير: صاحب شركة تدبير النفايات، أو مقاول تعبيد الطرق، أو مستثمر في العقار. يجلس هؤلاء حول مائدة العشاء مع المرشح “الواعد”، يبتسمون له، يسألونه عن تطلعاته، وفي النهاية يهمسون في أذنه:
“راك ولد الناس، وحنا غادي نوقفو معاك… ولكن نهار تنجح، ما تنساش صحابك.”

المرحلة الثانية: الانتخابات وشراء الولاءات
عندما يدخل السباق الانتخابي، يدرك أن الأصوات لا تُمنح بالمجان. فيبدأ في تمويل حملته من جيوب الداعمين الكبار، سواء عبر تقديم “الزرود” ومخاطبة بطون الناخبين، أو توزيع القفف، أو دفع مبالغ لبعض الوجوه المؤثرة في الحي. هنا، يُزرع الولاء الاقتصادي قبل السياسي.

المرحلة الثالثة: لحظة الانتقام واسترجاع المصاريف
بعد فوزه، يبدأ الرئيس في رد الجميل للذين موّلوا حملته. لكن كيف؟ بالصفقات والامتيازات والتسهيلات.

اتصال هاتفي يفضح المستور: عندما تصبح المدينة مُلكًا خاصًا للرئيس

في أحد الأيام، وقبل انتهاء عقد شركة جمع النفايات، قرّر الرئيس الاتصال بصاحب الشركة، لكنه لم يكن يعلم أن المكالمة ستكشف كل شيء. استعمل مكبّر الصوت، وكان صوته يحمل نبرة “الأستاذ” وهو يخاطب تلميذه البليد:

الرئيس: “آسي “فلان” واش ولينا دراري ولا كيفاش؟”
صاحب الشركة (مذعورًا): “لا لا أسي الرئيس، الشركة شركتك، ولك ما تريد!”

هذه الجملة، رغم بساطتها، تختصر كل شيء: المدينة لم تعد مدينة المواطنين، بل صارت ملكًا خاصًا للرئيس، يفعل فيها ما يشاء، ويمنح الصفقات لمن يشاء.

كيف يتم العبث بالصفقات؟

إذا كنت تتساءل عن الطرق التي يعتمدها هؤلاء الرؤساء لضمان استفادة “شركائهم” من العقود، فإليك بعض الحيل القذرة التي يُتقنونها:

التلاعب بدفاتر التحملات: قبل أن تُطرح الصفقة في المنافسة، يتم إعداد دفتر التحملات بطريقة تجعل الشروط مفصلة على مقاس شركة معينة، بحيث لا يمكن لأي منافس آخر الفوز بها.

إقصاء المنافسين بطرق ملتوية: يتم رفض عروض بعض الشركات بحجج تقنية واهية، أو يتم الإعلان عن مناقصة في فترة لا تسمح لمنافسي الشركة “المختارة” بتحضير ملفاتهم.

اللعب على الأسعار والعروض الوهمية: يتم التواطؤ مع شركات أخرى لتقديم عروض وهمية بأسعار مرتفعة، حتى تبدو الشركة “المختارة” كأنها تقدم أفضل عرض.

النتيجة: مدينة غارقة في الأزبال، ورئيس غارق في الثراء

والنتيجة؟ أحياء تعاني من تراكم النفايات، شوارع غير معبدة، وقنوات صرف صحي لا تصمد أمام أولى قطرات المطر. بينما الرئيس؟ يبني فيلات في الضواحي، يرسل أبناءه للدراسة في الخارج، ويرتدي أفخم البدلات الموقعة.

وهكذا، تُباع المدينة قطعةً قطعة، بينما المواطن البسيط ينظر إلى الفوضى من نافذته، متحسرًا على أيامٍ كان فيها الرئيس يُصافح الناس بصدق، قبل أن يتحول إلى تاجر يبيع كل شيء… حتى ذمته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.