حين يتحول جناح 36 إلى باب دوّار: المختلّون عقليًا بين العنف والإفلات من المتابعة

ضربة قلم
من جديد، يجد المواطن نفسه وجهًا لوجه مع مشهد بات مألوفًا حدّ القلق: شخص في حالة هيجان غير طبيعية يعتدي على المارة ويُلحق أضرارًا بالممتلكات، قبل أن تتدخل مصالح الأمن وتقتاده إلى مستشفى الأمراض العقلية، في حركة تلقائية تقودها تعليمات النيابة العامة. كل شيء يوحي بأن الدولة تتفاعل بسرعة، وأن المؤسسات تقوم بواجبها، لكن سرعان ما يتبخر هذا الانطباع حين تنقلب القصة إلى فصلها المألوف: إخلاء سبيل المعني بالأمر بعد فترة قصيرة، وكأن شيئًا لم يقع، وكأن الدماء التي سالت والخسائر التي سُجلت ليست سوى تفاصيل عابرة في مسرحية متكررة.
تتكرر هذه الظاهرة المقلقة في الفضاء العام، وتعيد إلى الواجهة تساؤلات حقيقية حول جدوى الإجراءات المتبعة في التعامل مع الأشخاص الذين يعانون من اختلالات عقلية ويشكلون، في فترات اندفاعهم، تهديدًا مباشرا للأمن العمومي وسلامة المواطنين والممتلكات. إن الحالة المسجلة مساء الأمس بمدينة الدار البيضاء، والتي تم فيها إيداع شخص تظهر عليه علامات الخلل العقلي بجناح الأمراض العقلية والنفسية بمستشفى ابن رشد، لا تبدو معزولة أو استثنائية، بل تنضاف إلى سلسلة من الحالات التي تثير قلقًا متزايدًا لدى الرأي العام، خاصة حينما يتكرر السيناريو ذاته: توقيف شخص في حالة غير طبيعية بعد ارتكابه أفعالًا عنيفة، ثم إحالته للمستشفى بقرار من النيابة العامة، قبل أن ينتهي المسار غالبًا بإخلاء سبيله كما لو أن شيئًا لم يكن.
وما يزيد من تعقيد الظاهرة هو هذا الالتباس القانوني والواقعي في كيفية التصرف مع هؤلاء الأفراد. فبين الاعتراف بوضعهم كمرضى يستحقون الرعاية الطبية والنفسية، واعتبارهم في لحظة الفعل الجنائي مصدر خطر وجب تحييده، تظهر فجوة تشريعية وتنظيمية لا يمكن تجاهلها. إن إيداع المشتبه فيه المستشفى ليس نهاية المشكلة، بل مجرد بداية لمسار ينبغي أن يكون محكمًا وواضح المعالم، يحفظ حق المجتمع في الأمان كما يراعي الحق في العلاج. لكن الواقع يدل على أن الخلل يكمن في غياب متابعة حقيقية للحالات المودعة، وفي ضعف التنسيق بين الجهات القضائية والصحية، بحيث يصبح الإيداع مجرد إجراء شكلي ينتهي غالبًا بإعادة الشخص إلى الشارع دون ضمانات لعدم تكرار السلوك العنيف.
لقد أثبتت التجربة أن العديد من الأشخاص الذين سبق أن تم إيداعهم جناح 36 بمستشفى ابن رشد بناءً على تعليمات من النيابة العامة، تمت إعادتهم إلى الفضاء العام في غياب أي آلية لضبط ومواكبة سلوكهم أو تقييم مدى تعافيهم، مما يخلق حالة من انعدام الثقة في هذه الإجراءات لدى المواطن البسيط الذي يشعر أنه مهدد في أي لحظة من طرف شخص يعاني من اختلال عقلي دون أن تكون هناك رقابة أو حماية فعلية. فهل يكفي أن يتم إيداع شخص المستشفى ثم يطلق سراحه دون ضمانات فقط لأنه “مختل عقليًا”؟ وهل يمكن أن يشكل الخلل العقلي تبريرًا دائمًا للإفلات من العقاب دون النظر إلى حجم الأذى الذي تسبب فيه للضحايا؟
إن الوضعية الراهنة تدفعنا للتفكير في مقاربة جديدة وشاملة، تدمج بين الطابع العلاجي والبعد الوقائي، وتعيد الاعتبار لكرامة هؤلاء المرضى دون أن تتغافل عن الحق المشروع للمجتمع في الأمن. فبدل أن يتحول المستشفى إلى محطة عبور مؤقتة في طريق العودة إلى التهديد، يجب أن يكون فضاءً للمعالجة الفعلية والتقييم المستمر، وفي حال ثبوت الخطر، لا بد من وجود مراكز مؤهلة للإيواء الدائم أو الطويل المدى مع مراقبة دقيقة ومرافقة طبية ونفسية واجتماعية. كما أن القضاء مطالب بإعادة النظر في كيفية تعاطيه مع هذه القضايا، ليس فقط كملفات فردية بل كإشكال بنيوي له امتدادات اجتماعية وصحية وأمنية.
وفي ظل غياب هذه المقاربة الشمولية، ستظل الحلقات تتكرر: اعتداءات، توقيفات، إيداعات، ثم إطلاق سراح… وكل مرة، يصبح “الخلل العقلي” ذريعة تفرغ العدالة من محتواها الوقائي، وتضع المجتمع أمام قنابل موقوتة تمشي بيننا، لا أحد يعرف متى تنفجر.