مجتمع

حين يتحول مرسول الحب إلى رمز للوقار

ضربة قلم

يحكي صديقنا، وهو يضحك ضحكة فيها أكثر من مرارة، عن رجل صار رمزًا للهيبة في مدينة صغيرة بالجنوب. يكفي أن يدخل السوق، حتى تفتح له الأزقة، كما لو كان نبيًّا نزل للتو من السماء. جلابة أنيقة، بلغة لامعة، طربوش تقليدي، وصوت رخيم يوزّع التعليمات كأنه يوقّع أوامر لا تُرد. كلمة منه كفيلة بقلب موازين أي اجتماع انتخابي، ونظرة واحدة تُخرس أقوى خطيب.

لكن، يا للعجب! وراء هذه الواجهة الباذخة، لا قصور ولا شركات ولا ملايين تتدفق من السماء. فقط محلّ متواضع لبيع الذهب في الدار البيضاء. وهنا لا بد أن نؤكد أننا نحترم كل من يكدّ ويعمل في أي تجارة حلال، مهما كانت بسيطة. غير أن حكاية صاحبنا ليست عن التجارة بحد ذاتها، بل عن شيء آخر يلمع أكثر من الذهب.

فالذهب الحقيقي عنده ليس ما يرصّف في واجهة المحل، بل ما يمرّ خفية في دهاليز “تجارة العلاقات”. هو نفسه الذي يوزّع الابتسامات في الأعراس والمآتم، هو الذي ينسّق بين الرغبات والأهواء، بين الباحث عن “ونيس” وتلك التي تبيع بضع ساعات بثمن يثير الدهشة. يسمّي نفسه “سفيرا للنوايا الحسنة” ووسيطًا في الخير – تخيّلوا! – والخير عنده يساوي كل ما يدخل الجيب، حتى لو كان على حساب القيم والكرامة.

والأدهى من ذلك أن الرجل لم يفقد احترامه، بل تضاعف بريقه! صار “ولد البلاد اللي طلع من والو”، و”الذكي” الذي يعرف من أين تؤكل الكتف. أما الذين يعرفون الحقيقة عن قرب، فيرون فيه صورة كاريكاتورية لزمن تائه. زمن صار فيه الوقار باللباس لا بالأفعال، والاحترام يُقاس بعدد العلاقات لا بميزان القيم.

والمصيبة الكبرى؟ أن الحكاية لا تتعلق بشخص واحد. إنها صورة مصغّرة لمجتمع يصفّق للثراء مهما كان مصدره، ويبارك الفساد إذا كان مغطّى بجلباب تقليدي وبلغة لامعة. مجتمع يكرّس قاعدة: “أظهر وقارًا، يُمنح لك الاحترام… أما الجوهر، فليذهب إلى الجحيم”.

هكذا صار “الحاج” النموذج الذي يُحتذى، والسمسار الذي صار مستشارًا، والدهاء الذي يُعلَّم في صالونات السياسة كفنّ من فنون البقاء. ومن يجرؤ على فضح المستور؟ الجميع مستفيد، والجميع صامت، والجميع يغمس يده في نفس الإناء.

في النهاية، الذهب الذي يلمع من بعيد ليس سوى نحاس مطلي، تمامًا كزمننا هذا: زمن يبيع القيم في المزاد ويشتري الوجاهة بأرخص الأثمان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.