مجتمع

حين يسرقنا الزمن.. والتقاعد يكشف الحقيقة!

ضربة قلم

لا ندري كيف تمر السنون، ولا كيف يتحول الشاب الذي كان يركض في الأزقة، يقفز بين الحجارة، ويخطط لألف مغامرة، إلى رجل يراقب عقارب الساعة وهي تلتهم عمره بهدوء. الأيام تتسرب من بين الأصابع كما يتسرب الرمل من قبضة يدٍ حاولت أن تمسكه عبثًا. تبدأ الرحلة بضحكة صافية، بقدمين صغيرتين تجريان دون سبب، بقلب يصدق أن العالم كله له، وأن السماء أقرب مما تبدو، وأن الغد مجرد امتداد سعيد لليوم.

ثم، دون سابق إنذار، يجد الفرد نفسه في مرآة لا تعكس الوجه الذي اعتاد عليه، بل ملامح أخرى، متعبة قليلاً، جادة أكثر مما يجب، وعينين تخفيان خلفهما ألف سؤال لم يُطرح في الوقت المناسب. تمر السنوات في البداية كما تمر العطل الصيفية، طويلة وممتلئة بالأحداث، لكنها حين تتكاثر تأخذ معها الدهشة الأولى لكل شيء، يصبح كل شيء متوقعًا، والعمر يتحول إلى سلسلة من التكرار الأنيق، حيث الأيام تتشابه إلا في التفاصيل الصغيرة التي لا يلاحظها أحد. يبدأ الإنسان بإدراك أن الأحلام التي راودته قد تقلّصت، أن “المستقبل” الذي كان يتحدث عنه في صغره أصبح الآن “الحاضر”، وأنه لم يعد يملك رفاهية تأجيل السعادة كما كان يفعل من قبل.

الزمن لص محترف، لا يسرق مرة واحدة حتى يشعر به الضحية، بل يأخذ القليل كل يوم، يسرق لمعة العيون، رشاقة الخطى، تلك الشجاعة الطفولية التي كانت تجعلنا نواجه كل شيء دون خوف. يسرق الأصدقاء واحدًا تلو الآخر، يأخذهم إلى أماكن بعيدة، إلى مسؤولياتهم الجديدة، إلى دوائرهم المغلقة، ثم يسرق الأحلام، لا بشكل فجائي، بل يجعلنا نقتنع بأن بعضها كان ساذجًا، وبعضها كان مستحيلاً، وبعضها كان مجرد نزوة عابرة.

يستيقظ المتقاعد صباحًا دون منبه، ليس لأنه لم يعد بحاجة للاستيقاظ مبكرًا، بل لأن الزمن قرر أن يعفيه من تلك العادة القديمة التي كانت تحدد إيقاع أيامه. لم يعد هناك رئيس عمل ينتظر تقريره، ولا اجتماعات طارئة، ولا مكالمات هاتفية مزعجة تقطع عليه قهوته الصباحية. لأول مرة منذ عقود، هو سيد وقته بالكامل، لكنه يكتشف فجأة أن الوقت لم يعد ملكه، بل أصبح ضيفًا ثقيلًا لا يعرف كيف يتعامل معه. يمضي اليوم بين جريدة يتصفحها ببطء وكأنه يبحث عن خبر يخصه، وبين قنوات تلفزيونية تعرض نفس الوجوه التي كانت تملأ شاشاته منذ سنوات، لكنها الآن تبدو أصغر سنًا مما ينبغي. يخرج إلى الشارع، يراقب زحمة الحياة التي لم تعد تنتظره، يسمع ضحكات شباب يركضون نحو المستقبل، فيتذكر أيامه الأولى في الوظيفة، حين كان هو الآخر يركض دون أن يدرك أن الزمن يركض معه، لكنه كان أسرع.

المعاش الذي كان يبدو له مكافأة مستحقة بعد سنوات من العمل، صار مجرد رقم يجبره على إعادة حساباته في كل شيء. فجأة، لم تعد المطاعم التي كان يرتادها تناسب ميزانيته الجديدة، ولم تعد السفريات خيارًا سهلًا كما كانت من قبل. يبدأ في تعلم فن التقشف، ليس لأنه لا يملك ما يكفي، ولكن لأن الخوف من الغد أصبح جزءًا من يومه. ثم هناك الفراغ. ذلك الوحش الصامت الذي لم يكن يخطر بباله يومًا أنه سيخوض معه معركة يومية. في الماضي، كان يتمنى لحظة راحة، يومًا بلا التزامات، لكن الآن وقد حصل عليها، يكتشف أن الراحة المفرطة تتحول إلى سجن، وأن الفراغ ليس نعمة دائمًا، بل قد يكون عقوبة مؤجلة.

لكن الحقيقة أن الهرم ليس في الجسد فقط، بل في الروح. بعض الناس يشيخون وهم في الثلاثين، لأنهم فقدوا الشغف، توقفوا عن البحث عن الجديد، استسلموا لفكرة أن الحياة أصبحت مجرد روتين يجب تأديته. وبعضهم يبقون شبابًا حتى وهم في السبعين، لأنهم لم يسمحوا للزمن بأن يأخذ منهم أكثر مما يجب، ظلوا يتساءلون، يضحكون، يحلمون ولو بأشياء صغيرة، ظلوا يملكون تلك الشعلة التي تجعل الحياة تستحق العيش.

التقاعد ليس نهاية، لكنه فرصة ثانية للحياة، لمن أراد أن يعيشها حقًا. هو وقت لإعادة اكتشاف الأشياء التي أهملها في زحمة الأيام، للبحث عن شغف جديد، للقراءة، للكتابة، للسفر ولو إلى أقرب حديقة، للضحك مع الأحفاد، لاختراع أحلام صغيرة لا تحتاج إلى الكثير لكنها تمنح اليوم طعمًا مختلفًا. لعل أجمل ما يمكن أن يدركه المتقاعد هو أن الزمن قد يكون سرقه، لكن لا يزال بإمكانه أن يستعيد بعضًا منه، بطريقته الخاصة، وبإيقاعه الذي يختاره هذه المرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.