حين يسقط دركيون في مستنقع الفساد: بين خيانة القسم وهيبة الدولة

ضربة قلم
لا نملك في هذا المقام إلا أن نعبر عن استيائنا العميق من مثل هذه الوقائع التي تمس بسمعة المؤسسات الأمنية، لا من باب التشفي أو الشماتة، وإنما انطلاقًا من إحساس صادق بالاشمئزاز عندما نجد أن بعض من أوكل إليهم تطبيق القانون وحماية المواطنين قد تحولوا إلى متواطئين مع الجريمة، مجسدين بذلك أبشع صور الفساد والانحراف المهني.
في بلد كالمغرب، حيث تعمل الدولة جاهدة على ترسيخ سيادة القانون وتعزيز الثقة في المؤسسات الأمنية، تأتي مثل هذه القضايا لتزرع الشك في نفوس المواطنين وتضعف منسوب الثقة في الجهات التي يفترض بها أن تكون صمام الأمان ضد الجريمة. فقد قضت غرفة الجنح التلبسية بالمحكمة الابتدائية بزاكورة بإدانة ثلاثة دركيين يشتغلون بمركز الدرك الملكي سكورة (إقليم ورزازات) بعقوبة تصل إلى ثمانية أشهر حبسا نافذا، مع غرامة مالية قدرها 5000 درهم، بعد أن ثبت تورطهم في جنح الارتشاء وإفشاء السر المهني، بل ومساعدة مجرم على الاختفاء من العدالة.
تفاصيل هذه القضية تكشف عن صورة قاتمة لانحراف بعض أفراد الأجهزة الأمنية، حيث تعود وقائعها إلى فتح تحقيق قضائي تحت إشراف مباشر من الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بورزازات، وذلك على خلفية تفكيك شبكة إجرامية متخصصة في النصب على المواطنين الراغبين في الهجرة إلى الخارج. وما يثير الغضب أكثر هو أن التحريات الأولية لم تتوقف عند حدود هذه الشبكة فحسب، بل امتدت لتكشف عن تورط دركيين تابعين لمركز الدرك الملكي بسكورة، بالإضافة إلى تورط بعض رجال الشرطة التابعين للإدارة العامة للأمن الوطني.
وبعد أن أسفرت التحقيقات الأولية عن معطيات خطيرة بشأن تورط هؤلاء الدركيين، لم يتردد الوكيل العام للملك في إصدار أوامره للفرقة الوطنية للدرك الملكي بالرباط بمواصلة الأبحاث بكل جدية ومسؤولية وحياد تام، وهو ما أفضى إلى استكمال مسطرة التحقيق التي أكدت بالأدلة الدامغة التهم الموجهة إليهم.
ولم يكن أمام النيابة العامة سوى اتخاذ الإجراءات اللازمة، حيث أمر الوكيل العام للملك بإحالة الدركيين الثلاثة على القضاء، وبعد استنطاقهم، تمت متابعتهم بتهم ثقيلة تشمل الارتشاء وإفشاء السر المهني والتواطؤ مع المجرمين، وهو ما استدعى إصدار ملتمس إيداعهم السجن المحلي بورزازات في انتظار محاكمتهم. وعند استكمال التحقيق، أُحيل المتهمون في حالة اعتقال على المحكمة الابتدائية بزاكورة التي قضت بإدانتهم وفق الأحكام المذكورة.
إن مثل هذه القضايا ليست مجرد زلات فردية، بل هي جرس إنذار يستوجب منا جميعًا، دولة ومجتمعًا، التوقف مليًا أمام أسباب هذا الانحراف المهني الخطير. إن محاربة الفساد داخل المؤسسات الأمنية ليست مجرد شعارات ترفع، بل هي معركة طويلة تستلزم إرادة سياسية حقيقية وإجراءات عملية رادعة. فالمؤسسات الأمنية التي تستمد مشروعيتها من ثقة المواطنين، لا يمكن أن تتسامح مع وجود عناصر فاسدة في صفوفها، لأن ذلك يمثل تهديدًا مباشرًا لهيبة الدولة وللمشروع المجتمعي الذي يقوم على سيادة القانون والمساواة أمامه.
وعليه، فإننا لا ننظر إلى هذه الأحكام القضائية كغاية في حد ذاتها، بل كجزء من جهد متواصل تبذله النيابة العامة والأجهزة الأمنية من أجل تطهير المؤسسات من كل العناصر التي قد تسيء إلى رسالتها النبيلة. فالعدالة لا تتحقق فقط بإنزال العقوبات على المتورطين، بل أيضًا بضمان عدم تكرار مثل هذه الممارسات، من خلال تعزيز آليات المراقبة والشفافية، وترسيخ ثقافة النزاهة والالتزام بالقسم المهني.
إننا نأمل أن تكون هذه الواقعة عبرة لكل من قد تسول له نفسه استغلال منصبه الأمني لتحقيق مكاسب غير مشروعة، لأن الدولة، مهما طال الأمر، لن تتردد في بتر كل يد آثمة تعبث بمصداقية الأجهزة الأمنية. فكرامة المؤسسات لا تُشترى، وثقة المواطنين لا تُباع، وما دام هناك ضمير حي في هذا الوطن، فإن العدالة ستظل دائمًا قائمة بالمرصاد لكل من يخون الأمانة.