حين يصمت النهار، يبدأ الليل في رواية حقيقته…

م-ص
ليس الليل ظلامًا كما نظن، بل فسحة راحةٍ لمن أنهكهم الضوء الزائف، وسِترٌ لطيف للقلوب التي لم تجد مكانًا تصف فيه وجعها. ففي ساعات المساء المتأخرة، حين تُطفأ الأضواء وتخفت الأصوات، يبدأ القلب في قول ما لم يستطع البوح به في صخب النهار.
الليل، رغم ما يحمله من سكون، ليس فراغًا. بل هو لغة خاصة، لا يجيدها إلا أولئك الذين ذاقوا ثقل الحياة، واختاروا ألا يصرخوا، بل أن يكتبوا. الكلمة في الليل تأخذ هيئة نجمة، أو تنهيدة طويلة على ورقة بيضاء. هي محاولة لترتيب الفوضى الداخلية، لا لإقناع الآخرين، بل لمصالحة الذات.
أما الكتابة ليلًا، فهي ليست هواية، بل نوع من النجاة. نوع من الصلاة التي لا تُرفع إلى السماء بل تُحفر على الورق. ولهذا، فالذين يكتبون في الليل لا يبحثون عن جمهور، بل عن ضوء صغير يطفو على سطح أعماقهم، يخبرهم أن لا شيء انتهى، وأنهم ما زالوا قادرين على النطق، ولو بصوت مكسور.
ولأولئك المهمومين، الذين يحملون ثقلًا لا يُرى، لا بأس… الليل معكم، لا عليكم. لا أحد ينتظر منكم بطولة، فقط أن تصمدوا قليلًا، أن تفتحوا نافذتكم وتدعوا قلوبكم تتنفس.
أما عشاق الكلمة، فهم يعرفون جيدًا أن الليل صديقهم. لأن الليل لا يقاطع، لا يحكم، لا يستهزئ. فقط ينصت، ويمنحهم متّسعًا من المعنى.
وفي النهاية، ليس كل ما نراه في الوهلة الأولى هو الحقيقة، فثمة وجه آخر للحياة، لا يُرى إلا حين نُطفئ ضجيج العالم ونصغي إلى همسات التفاصيل.
ذاك الوجه الآخر… الذي لا يُخيف، بل يُدهش. لا يُحبط، بل يُلهم. فيه الحب الجديد يطلّ خجولًا أول الأمر، ثم يسطع كفجرٍ ينتصر على ليل طويل. حبّ لا تشوبه حمى التسرع، بل ينمو على مهل، ويزهر من إعجاب صادق، نابع من قناعة لا من وهم.
هو الوجه الذي يجعلنا نعيد النظر في الأشياء، فنكتشف أن الإبداع ليس فقط فيما ننجزه، بل في الطريقة التي نحب بها، التي ننهض بها، التي نعيش بها. عندها فقط، نصبح أوفى لأنفسنا، وأقرب لما يجعل الحياة تستحق أن تُعاش… بكل تناقضاتها، وبوجهها الآخر.