مجتمع

حين يطرق البرد الأبواب: بين صقيع أوروبا ودفء الحنين

م-ص

ها نحن نعيش حالات الصقيع وأمطار الخير التي زارت المغرب أخيرًا، فنسترجع دون قصد حنينًا من نوع آخر إلى شتاء 2008، حين قضينا شهرًا كاملًا بفرنسا، بين نونبر ودجنبر. لم تكن تلك الإقامة كسابقاتها من الزيارات الصيفية حيث يجتمع الأصدقاء وتمتزج متعة السفر بالاستكشاف، بل فرضتها ظروف عمل محترم من نوع مختلف.

لكن بعيدًا عن طبيعة العمل، كانت تلك التجربة درسًا في الصقيع الأوروبي، درسًا في قسوة المناخ الذي لم تعتد عليه أجسادنا، نحن الذين نشأنا على شمس تمنح الدفء للنهارات الباردة، وعلى شتاء لا يجرد الأرواح من طاقتها كما يفعل برد أوروبا. المغاربة ألفوا مناخًا متقلبًا، حيث تعيش أحيانا الفصول الأربعة في يوم واحد،لكنهم لم يعتادوا هذا الصقيع الذي يتسلل إلى العظام، هذا الغياب القاسي للشمس، وهذا الإحساس المزمن بأنك محاصر داخل معطف سميك طوال الوقت.

لا شيء يوازي شعور المغربي حين يكتشف أن الشتاء هنا ليس كما كان يعرفه. في المغرب، حتى في عزّ البرد، تظل الأسواق مزدحمة، المقاهي ممتلئة، الحركة مستمرة، واللقاءات الاجتماعية لا تحتاج إلى موعد مسبق. أما هناك، فالشتاء ليس مجرد طقس، بل منظومة حياة مختلفة، عزلة إجبارية، وطقوس اجتماعية أكثر برودًا. ومع مرور السنوات، يزداد الإحساس بأن المغاربة الذين ألفوا دفء وطنهم لا يمكنهم التأقلم مع هذه الأجواء، خاصة بعد سن معينة، حين تصبح الحاجة إلى الألفة أهم من أي شيء آخر.

وبينما نحن في قلب هذا البرد، تأخذنا المقارنة لا شعوريًا إلى تفاصيل أخرى. ليس كل ما في أوروبا متشابهًا، كما أن الشعوب ليست سواء. تجربة العيش في فرنسا ليست كتجربة العيش في إسبانيا، تمامًا كما أن الحياة في الجنوب الإسباني ليست كالحياة في شماله. بين الفرنسيين والإسبان، لطالما كانت لنا ميول نحو أبناء الشمال الإسباني، حيث الأجواء أكثر دفئًا، والناس أكثر عفوية، والتعامل أكثر إنسانية. هناك، لا تحتاج إلى التعامل بمنطق “المصلحة المتبادلة” الذي أتقنه الفرنسيون وعلموه لغيرهم، هناك، يمكنك أن تجد دفئًا إنسانيًا يشبه إلى حد ما ما كنا نعرفه في المغرب.

لكن دعنا من هذا، ففي النهاية، ما يحزّ في النفس حقًا ونحن نعيش هذا الصقيع، ليس البرد نفسه، بل التفكير في أولئك الذين يواجهونه دون اختيار. سكان الجبال في المغرب لا يتذمرون من نقص أشعة الشمس، بل من نقص الحطب، من العزلة التي يفرضها الثلج، من المدارس التي تغلق أبوابها، من المستوصفات التي لا تصل إليها الإمدادات، من الطرق التي تصبح غير صالحة لعبور السيارات، فضلًا عن البشر. البرد هنا قاسٍ، لكنه هناك قاتل. نحن نحاربه بمعاطف دافئة ومدافئ كهربائية، وهم يحاربونه برحلات شاقة لجمع أعواد الحطب، بصبر طويل على واقع لم يتغير منذ عقود، وبانتظار شمس قد تتأخر أكثر مما ينبغي.

حين نعيش الشتاء هنا، في المدن، نشكو قليلًا ثم نواصل يومنا. لكن في الجبال، الشتاء ليس محطة عابرة، بل امتحان للبقاء. ليست مسألة طقس، بل مسألة حياة أو موت. الفرق بيننا وبينهم ليس في درجة الحرارة، بل في قدرة كل طرف على مواجهتها. الشتاء واحد، لكن الحياة ليست كذلك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.