مجتمع

حين يعلو صوت المال على رسالة التعليم: صندوق الضمان الاجتماعي يقتحم جحر الفساد في المدارس الخاصة

ضربة قلم

علمنا أن الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي قد تذكر أخيرًا قطاع التعليم الخصوصي، وهو قطاع ظل لسنوات طويلة في منطقة رمادية، يعاني من فراغ في المراقبة الحقيقية ويستفيد من تساهل يكاد يكون متعمدا من الجهات المختصة. هذه الالتفاتة المتأخرة من الصندوق ليست فقط مؤشرا على أن مؤسسات الدولة بدأت تعي حجم التسيب الحاصل في هذا القطاع، بل تكشف أيضًا عن واقع طالما كان يُهمس به في الكواليس دون أن يجد طريقه إلى المعالجة الجادة: فساد مستشر، تجاوزات ممنهجة، واستغلال لا أخلاقي لفئات واسعة من المستخدمين الذين يفترض أن يحظوا على الأقل بالحد الأدنى من الحماية القانونية والاجتماعية.

لقد دأبت العديد من المؤسسات الخاصة للتعليم، التي يُفترض أنها تنشئ أجيالا على القيم والمواطنة، على نهج سلوك لا يليق برسالة التربية، حيث عمدت في حالات كثيرة إلى إرشاء أشباه مفتشين كانوا يُفترض أن يمارسوا مهامهم الرقابية بمهنية ونزاهة. هؤلاء، بدورهم، تحولوا إلى أدوات طيعة بيد أصحاب المؤسسات، فصاروا يزورون تقارير التفتيش ويقدمون صورة وردية عن واقع لا يمت للحقيقة بصلة. وفي ظل هذا التواطؤ، كان من الطبيعي أن تترسخ الممارسات غير القانونية وأن يتسع هامش التجاوزات ليشمل التهرب من التصريح بالمأجورين لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، والتلاعب بشروط الشغل، وفرض أنظمة عمل هشة وغير مستقرة على العاملين، خاصة النساء الشابات والمستخدمين الذين هم في أمسّ الحاجة إلى عمل قار.

نعلم جميعًا أن قطاع التعليم الخصوصي غالبًا ما يتسابق إلى الزيادة في الرسوم والواجبات كل سنة، متذرعًا بشعارات الجودة والتفوق والتميز، في حين أن هذه الزيادات لا تنعكس بتاتا على شروط العمل ولا على أجور المستخدمين. في كل موسم دراسي جديد، يتلقى الآباء والأمهات صدمة أخرى في شكل زيادات غير مبررة، قد تتراوح بين رسوم التسجيل والتأمين والنقل والأنشطة، دون أن يكون هناك أي أثر لتحسين حقيقي في البيئة التربوية أو في تكوين الأطر العاملة داخل المؤسسة. أما الأطر نفسها، خصوصًا المدرسين، فكثير منهم يشتغلون بأجور زهيدة، دون عقود قانونية، وفي ظروف تجعلهم رهائن دائمة لابتزاز الإدارات التي تهددهم بالفصل متى أبدوا احتجاجا أو طلبوا حقا.

المفارقة الصارخة أن كثيرًا من رجال التعليم في القطاع العمومي يشتغلون أيضًا في التعليم الخصوصي، وغالبًا ما يشكلون العمود الفقري لهذه المؤسسات، حيث يعتمد عليهم في إنجاح برامجها وتحقيق نتائجها. هؤلاء، رغم كونهم مؤطرين من الدولة ويتقاضون أجورهم من المال العام، يتحولون خارج أوقات عملهم الرسمي إلى موارد بشرية حيوية في القطاع الخاص، بل أحيانا إلى ملاذ ضروري لأصحاب المدارس الخاصة من أجل رفع مستوى التعليم وتفادي الاعتماد على شباب غير مؤهل أو يفتقد إلى التكوين التربوي الجيد. هذا التداخل بين القطاعين، والذي يتم أحيانا بتغاضٍ من الإدارات، ساهم في إخفاء هشاشة القطاع الخاص وفي التمويه على ضعفه الهيكلي، لكنه أيضًا فتح الباب أمام تواطؤات وسلوكات غير سليمة، من قبيل تبادل المنافع وشراء الصمت، ما أدى إلى ضياع حقوق كثير من العاملين وأضعف مصداقية الرقابة والمؤسسات المعنية.

في ضوء هذا الواقع، تبدو خطوة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي كمحاولة أولى لتقليص مساحة التجاوز، لكنها لن تكون ذات أثر حقيقي ما لم تُرفق بإجراءات أكثر صرامة وبإرادة سياسية حقيقية لفرض القانون ومساءلة الفاسدين والمستهترين بحقوق الناس. من غير المعقول أن يستمر قطاع يُعنى بتربية الأجيال في ممارسة هذا النوع من الاستغلال، وأن تُترك آلاف الأسر في مواجهة جشع إدارات لا ترى في التعليم إلا صفقة اقتصادية، ولا تعتبر مستخدميها سوى أدوات يمكن الاستغناء عنها في أي وقت. ما نحتاجه اليوم ليس فقط تنظيما إداريا أو حملات ظرفية، بل إصلاحا جذريا يعيد الاعتبار للمهنة ويربط الجودة بالعدالة الاجتماعية والكرامة المهنية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.