خطأ يُحاكم بالفرجة: قراءة في سقوط محام مراكش وانكشاف المنظومة

ضربة قلم
في قراءة نقدية معمقة لهذا الحدث الذي اهتز له الوسط القانوني والحقوقي بمراكش، نجد أنفسنا أمام قضية متعددة الأبعاد، تتشابك فيها الأسئلة القانونية بالأخلاقية، والسياسية بالمؤسساتية، في لحظة دقيقة تعكس التوتر الكامن بين تطلعات دولة الحق والقانون من جهة، وممارسات الواقع المعاش من جهة أخرى. إذ لا يتعلق الأمر فقط بإدانة فرد تصرف في لحظة طيش وسُكر، بل بكيفية تفاعل المؤسسات، بما فيها الأمنية والقضائية والمهنية، مع هذا السلوك، وانعكاسات ذلك على ثقة المواطنين في نجاعة العدالة وعلى صورة الدولة برمتها.
من الجانب القانوني، يصعب الدفاع عن محتوى ما ورد في المقطع المسرب، حتى في حال افترضنا وجود انتهاك لشروط التوقيف، إذ أن ما نُسب إلى المحامي المعني من سب الذات الإلهية وإهانة الملك ومؤسسات الدولة والدين الإسلامي، يشكل وفق القوانين الجاري بها العمل جرائم تمس النظام العام والاحترام الواجب للرموز الدستورية. غير أن جوهر النقاش لا يتوقف عند مستوى التجريم والعقوبة، وإنما يمتد إلى الشروط التي تم فيها توثيق الحادث، والتوظيف المحتمل لهذا التوثيق في تشكيل الرأي العام، وربما حتى في التأثير على المسار القضائي.
إن تسريب مقطع فيديو يوثق لحظة توقيف شخص في حالة غير طبيعية، ولو كان محاميا، لا يمكن أن يُفهم إلا كجزء من انزلاق خطير في ممارسات الأجهزة الأمنية التي يفترض فيها أن تكون حامية للكرامة، وليست مجرد جهة ضابطة تُمارس سلطتها بطريقة استعراضية أو انتقامية. ويبدو جليا أن ما أثار غضب اتحاد المحامين الشباب ليس فقط الفعل في حد ذاته، بل دلالاته العميقة: تصوير شخص في وضعية مهينة ونشر تلك الصور على أوسع نطاق، في خرق واضح لمبدأ قرينة البراءة، وضمانات الحراسة النظرية، والحق في المعاملة الإنسانية حتى في أقسى الظروف.
هذا الانزلاق يعيد إلى الأذهان صورا قاتمة من ماضي الانتهاكات التي لطالما ادعت الدولة المغربية تجاوزها، خاصة في ظل دسترة حقوق الإنسان منذ 2011، وتعزيز الخطاب الرسمي بمرجعيات كونية للحريات والكرامة. أن تُمارس الشرطة صلاحياتها في التوقيف أمر طبيعي، أن تُصدر العدالة حكمها وفق النصوص أمر مشروع، لكن أن يُسرب شريط بتلك الطريقة في تماهٍ مع “فرجة جماعية” على سقوط شخص، مهما كانت رتبته أو سلوكه، فإننا أمام ثقافة عقابية شعبوية بدأت تتسلل بهدوء إلى مفاصل الدولة.
المثير للتأمل أن رد فعل اتحاد المحامين لم يكن دفاعًا عن زميلهم أو محاولة تبرير ما صدر عنه من أفعال مشينة – وهي كذلك دون شك – بل كان انتصارا لمبدأ أسمى: لا يمكن مكافحة الانحراف بانحراف مماثل. ففي دولة القانون، لا يُسمح للسلطات العمومية، ولا لمن يمثلونها، أن يتجاوزوا صلاحياتهم، حتى عندما يكون الشخص المعني في حالة سكر أو تجاوز الخطوط الحمراء. فالأمن لا يُبنى على إذلال الأفراد، والقضاء لا يُمارس تحت ضغط الشارع أو الفيديوهات المتداولة.
من هنا، تبدو دعوة المحامين الشباب إلى فتح تحقيق عاجل بمثابة محاولة لإعادة الاعتبار للضوابط المؤسساتية التي تهددها هذه التجاوزات. هم يدركون أن هذه القضية لن تتوقف عند شخص المحامي، بل ستُستغل كذريعة لتأليب الرأي العام، وربما لتقويض مصداقية الجسم الحقوقي والمهني برمته. كما أن استسهال تصوير الناس في لحظات ضعفهم وتعميم تلك الصور هو ما يُفقد القانون هيبته ويجعل من المؤسسات أدوات للعقاب المعنوي أكثر منها آليات للعدالة.
والأهم من ذلك، أن هذا النقاش يكشف عورة البنية الأمنية في المغرب، التي رغم ما يُقال عن تحديثها، لا تزال في بعض جوانبها حبيسة منطق “الردع البصري” و”تأديب النموذج”، أي أن تُعرض حالة فردية على أنها درس جماعي لمن تسوّل له نفسه الاعتراض أو التمرد أو حتى الاستهتار. وهذا ما يخلق علاقة غير صحية بين الدولة ومواطنيها: علاقة خوف لا ثقة، وعقاب لا إصلاح.
يبقى أن نشير إلى أن تهمة “إهانة الذات الإلهية” وإن كانت موضع متابعة، فهي تُطرح في سياق إشكالي أكبر: كيف نوفق بين حرية التعبير، حتى في لحظة اختلال وطيش، وبين القدسية المفترضة لبعض الرموز؟ هل ما قاله هذا المحامي، وهو في حالة سكر، يعكس قناعة متجذرة أم لحظة انفعالية لا تستحق هذا الزخم العقابي؟ وهل يليق بمؤسسة القضاء أن تنخرط في محاكمة النوايا الدينية؟
في المحصلة، لسنا أمام محاكمة لمحامٍ فقط، بل أمام مشهد كامل يُفترض فيه أن تُراجع فيه الدولة آليات تعاملها مع الأفراد، وتُعيد النظر في الضمانات الفعلية – لا النظرية – التي تحكم العلاقة بين المواطن والمؤسسة، بين الخطأ الفردي والعقاب الجماعي، وبين الواقعة المعزولة والسياق السياسي والثقافي الأوسع.
يبقى سؤالنا معلقًا: من يحاكم من في هذا البلد؟ الفرد أم المنظومة؟ الخطأ أم الطريقة التي نُعاقب بها الخطأ؟