سياسةمجتمع

دعم أم ريع مقنع؟ كاتبة الدولة في قفص الاتهام بسبب تمييز مشبوه في قطاع الصيد البحري

ضربة قلم

في هذا السؤال الكتابي الذي وجهه النائب مصطفى إبراهيمي باسم مجموعة العدالة والتنمية بمجلس النواب، والمُعنون حول “الإطار القانوني ومعايير الدعم بقطاع الصيد البحري”، تظهر جملة من المؤشرات المقلقة التي تفتح الباب على مصراعيه لنقاش جدي حول الشفافية، الإنصاف، وحسن التدبير في توزيع الدعم العمومي داخل هذا القطاع الحيوي، مع تسجيل ملاحظات جوهرية على أداء كاتبة الدولة المكلفة بقطاع الصيد البحري.

بداية، لا بد من التذكير بأن الدعم العمومي ليس هبة شخصية توزعها جهة حكومية بمزاجية أو بمنطق الولاء السياسي أو القرب الانتخابي، بل هو أداة تدخل عمومي هدفها تحقيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية، والنهوض بالقطاعات الإنتاجية، وفق معايير مضبوطة وقوانين مؤطرة تضمن تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين. حينما تتحول هذه الأداة إلى وسيلة ترويجية حزبية، أو تُمنح بشكل انتقائي لجهات بعينها تحت غطاء “التكريم” أو “الدعم”، فإننا نكون أمام انحراف خطير عن مبادئ الدستور وروح المسؤولية.

ما قامت به كاتبة الدولة المكلفة بقطاع الصيد البحري -بحسب ما ورد في سؤال النائب- يرقى إلى ممارسة تمييزية تمس بجوهر المرفق العمومي وتضرب في الصميم مبدأ الحياد الإداري. كيف يمكن تفسير تنظيم لقاء حزبي تحت شعار فضفاض من قبيل “تثمين الإنجازات”، وفي فضاء مفتوح على الفاعلين في القطاع، يتم فيه الإعلان عن تخصيص دعم مالي يقدر بـ100 مليون درهم (10 مليارات سنتيم) لفائدة من تم اختيارهم دون توضيح للمعايير أو إخضاع العملية لمساطر الشفافية؟ هذا التصرف لا يمكن وصفه إلا بمحاولة واضحة لتوظيف المال العام في سياق حزبي ضيق، بل ويمكن اعتباره تلميحًا ضمنيًا لتبادل المنافع السياسية، وهو ما يضع كاتبة الدولة في وضع محرج قانونيًا وأخلاقيًا.

الاستغراب لا يقف عند هذا الحد، بل يتفاقم حين نعلم -وفق نفس السؤال البرلماني- أن الدعم تم الإعلان عنه أمام أعضاء غرفة الصيد البحري، وفي غياب أي وثيقة رسمية أو مرجعية قانونية منشورة توضح شروط الاستفادة. أليس من حق باقي العاملين في القطاع، ومنظمات المجتمع المدني، والنقابات المهنية، أن يطالبوا بكشف تفاصيل هذه “المنحة”؟ وهل يحق لجهة حكومية أن تتصرف في المال العام بهذا الشكل المبهم، دون توثيق قانوني أو تقارير مفصلة تُعرض على الرأي العام؟

ثم إن ربط الإعلان عن هذا الدعم بلقاء حزبي داخلي يضم قيادات سياسية محسوبة على حزب كاتبة الدولة، يطرح علامات استفهام خطيرة حول ما إذا كانت هذه المبادرة جزءًا من أجندة انتخابية مبكرة تستغل مواقع النفوذ الحكومي لخدمة حسابات سياسية ضيقة. لا يمكننا أن نتغاضى عن هذا الخلط الخطير بين ما هو حكومي وما هو حزبي، خصوصًا في سياق يعاني فيه المغرب من أزمة ثقة في المؤسسات، واحتقان اجتماعي في العديد من الأوساط المهنية بسبب غياب الإنصاف.

التمييز الذي مارسته كاتبة الدولة -بحسب ما يفهم من الوثيقة- لا يمس فقط العاملين في قطاع الصيد البحري الذين لم تشملهم هذا “الكرم الحاتمي”، بل يشكل سابقة خطيرة في تطويع الدعم العمومي لخدمة أجندات خاصة. وإذا لم تتم محاسبة المسؤولين عن مثل هذه الانزلاقات، فإن ذلك سيؤدي إلى ترسيخ ثقافة الريع السياسي وتهديد أسس التنافس الديمقراطي السليم.

من هذا المنطلق، فإن من حق النائب البرلماني، ومن واجبه، أن يطرح تساؤلات دقيقة وصريحة حول: الإطار القانوني المنظم لهذا الدعم، المعايير المعتمدة، الجهة التي أصدرت قرار المنح، آليات التتبع والمراقبة، والضمانات التي توفر تكافؤ الفرص بين جميع المهنيين. كما من حقه أن يستفسر إن كان هذا “الدعم” قد تم تضمينه في الميزانية العامة لسنة 2025، أم أنه مجرد وعد شفوي أُطلق لأغراض ظرفية.

الخلاصة أن ما يجري في قطاع الصيد البحري ليس مسألة تقنية أو مالية فحسب، بل هو امتحان حقيقي لمدى التزام الحكومة بقيم النزاهة والمساءلة. إن كاتبة الدولة -التي من المفترض أن تكون حامية لمصالح جميع الفاعلين في القطاع دون تمييز- مطالبة بتقديم تفسيرات دقيقة للرأي العام، وتحمّل مسؤوليتها كاملة أمام البرلمان والشعب. إن التهاون في هذا الملف لا يسيء فقط إلى صورة الحكومة، بل يضرب مصداقية العمل السياسي بأكمله، ويمنح خصوم الديمقراطية ذريعة إضافية للطعن في جدوى المؤسسات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.