
ضربة قلم
صناعة شعب طيّع ليست بالأمر السهل، بل تحتاج إلى عبقرية شريرة، وشيئا من الخيال البوليسي، وطبعا قليلا من “التقاليد” المتوارثة في التحكم، مضافا إليها لمسة حديثة من فنون الإدارة بالترهيب والترغيب. دعونا نتصور الأمر كحمّام تقليدي كبير، حيث البخار يملأ المكان، والكل عارٍ من أي درع فكري، إلا من “منشفة” المصلحة الشخصية.
نبدأ أولا بإخراج شخصية خارقة، اسمها “المخزن”، لا وجه لها، ولا جسد، لكنها تحضر في كل مكان. تراها في نظرات الموظف المرتعش خلف شباك الإدارة، وتسمعها في همس الصحفي الذي حذف فقرة من مقاله، وتشعر بها في قلب السياسي حين يبتلع لسانه فجأة. المخزن لا يحتاج إلى تعريف، إنه كالعفريت في القصص الشعبية، لا تراه لكنك تحسب له ألف حساب.
ثم نمر إلى الخطوة الثانية، وهي جمع شتات أولئك “المشوشين” الذين أدمنوا الشكوى، وألفوا معارضة النظام كما يُؤلف ديوان شعر عصري بلا قافية ولا طرب. أولئك نمنحهم فتات المجالس، نُجلسهم في الصفوف الخلفية، نمهد انخراطهم في احزابنا الجديدة/ القديمة ونمنحهم ميكروفونا معطلا وكأس شاي بارد، وننثر أمامهم وعودا دافئة كأحلام الظهيرة. نتركهم يتكلمون حتى يملّوا الكلام، ثم نُصفّق لهم كما يُصفّق الممثل الكومبارس بعد انتهاء العرض: بلا روح.
لا ننسى الملفات، فهي كنزنا الحقيقي. نصنع من كل سياسي دفترا صغيرا، فيه صور، وفواتير، وربما بعض التسجيلات التي التقطت في “الصدفة”. لا نستخدمها دائما، فقط نلوّح بها كمن يلوّح بالعصا في وجه الحمار الكسول: يكفي أن يراها حتى يسير في الاتجاه المطلوب.
النقابات؟ نُدخلها إلى لعبة الشطرنج نفسها. بعضها نُطعمه من كيسنا، وبعضها نُبقيه جائعا ليُحدث بعض الضجيج المفيد، كمن يفتح صنبور الماء الساخن قليلا ثم يخلطه بالبارد حسب الحاجة. لأننا، كما تعلم، نعيش في حمّام، وكل حمّام يحتاج إلى “كسّالة” يعرفون متى يُدلّكون الأكتاف، ومتى يصبّون الماء الساخن، ومتى يُلقون الزبون في حوض الماء البارد ليُفيق من حلم الحرية.
آه، “الكسّالة”! تلك الشخصية التي لا تشبه “الكسالة” الحقيقيين إلا في الاسم، أما الدور فأسطوري بامتياز. إنها ليست مجرد عاملة حمام تفرك الظهور وتسكب الماء، بل نبيّة جديدة بعقيدة محلية، تستنزل الوحي من فوق قُبّة الولاية، وتوزّعه بخطابات شعبوية على أبناء الشعب المبلّل أصلاً… بالخوف.
هذه “الكسّالة” لا تمسك بيدها الليفة بل تمسك بالميكروفون، وتبدأ طقوسها الغريبة وهي تخاطب الجماهير من فوق المنصات أو من داخل الصالونات المخزنية الأنيقة: “أيها الشعب المبارك، لقد رُزقتم بنعمة المخزن، فاركعوا شكراً، واغتسلوا من رجس الشك، فإني أراكم بعين البصيرة، ومن عصاني فقد خالف الوطن”.
وبين صرخة وأخرى، ترمي بخطابها المرتجل كما ترمي الكسالة دلواً من الماء الفاتر على جسد نصف نائم: تارة تمدح قائد البلاد كما تُمدَح الملائكة في صلوات آخر الليل، وتارة توبّخ أعضاء الحكومة كأنها تلعن إبليس على منبر الجمعة، ثم تُعرّج على الفقراء بدمعة اصطناعية، وتختم بآية من كتاب “أنا ضد المخزن وأنا معكم فأعبدون”.
الجمهور لا يعرف هل يضحك أم يبكي. مزيج من التصفيق الحائر والذهول العام، فهي تتكلم بلغة الشعب لكن بلسان وموافقة السلطة، ترتدي ثوب الضحية وتتصرف كجلّاد مساعد. تقول إنها واحدة من الناس، ثم تهددهم بكل وسائل الردع الرمزية. تتظاهر بالبساطة، لكنها مُصفّحة بحراسة غير مرئية اسمها “رضا الجهات العليا”.
وبينما المخزن يبتسم خلف الستار، تواصل “نبيّته” نشر الرسالة: “أيها الشعب، لا تسألوا كثيراً، فقط صفّقوا، امنحونا البيعة، واغتنموا فرصة الغفلة الجماعية!” فهي لا تحتاج إلى معجزات لتقنع البسطاء، يكفيها أن تهتف: “أنا واحدة منكم”، ثم تُطل من نافذة سيارة، أو تتلو بياناً عبر قناة تحرث الأرض بالمساحيق الوطنية.
أحياناً، تُغمض عينيها وتدخل في نشوة خطابية فتقول: “رأيتُ في المنام أن المغرب سيقود البشرية”، أو “جاءني هاتف من السماء المخزنية وقال لي: بوركي دعواتك في المهرجانات السياسية”، فيصدقها البعض ويتبرك بكلماتها كما يُتبرك بماء السدر عند فَكّ الربط.
أما الاختلاف؟ فهو في نظرها رجسٌ من عمل الحداثة، وتعبير عن أفكار متخلفة، وعقوق وطني يستوجب الاستتابة. تصفهم بالمنافقين، الحاقدين، الخائنين لنعمة السلم الاجتماعي، وتدعو لهم بالهداية، أو إن استعصى الأمر، تدعو لهم بالمنع من السفر.
هكذا تصير “الكسالة” رمزًا جديدًا للولاء المستعر، وللنبوءة المعلّبة، وتُسخّر خطابها لتقليد المهدي المنتظر.
لقد صار للمخزن نبيّة تُكمل الرسالة: لا للتفكير، لا للمساءلة، نعم للخشوع أمام “الاستثناء المغربي”. إنها الكسالة العظيمة، ليست تلك التي تُفرك الأجساد، بل التي تُفرك العقول الصغيرة بماء الدعاية، وتتركها ناعمة، مرنة… ومطيعة.
أما الشعب، فندعوه إلى هذا الحمام كل يوم، نغسله من أفكاره، ونفركه من مبادئه، ثم نُعطره بشعارات براقة عن الاستقرار والوطنية والانتماء، ونتركه يخرج بجلده نظيفا ولكن فارغا. حين يسأل: إلى أين نحن ذاهبون؟ نجيبه بابتسامة “الكسّال”: لا يهم، المهم أنك دافئ الآن، مرتاح، وتحت السيطرة.
وفي كل مرة يوشك فيها أن يفتح عينيه على الحقيقة، نرسل له من يُغني، ومن يُحلّل، ومن يُنبّه إلى المؤامرات الخارجية، ونرش قليلا من ماء الورد على رأسه، ونقول له: دع التفكير لأصحاب الاختصاص، وابقَ مطيعا، فالوطن يحتاجك… نائما.