رياضة

ديربي بلا روح: مقاطعة تاريخية تُشعل الغضب ضد فساد التسيير وإهانة البيضاء

ضربة قلم

حين تقرر جماهير الرجاء والوداد، بكل ما تملك من صخب وشغف، أن تقاطع الديربي، فالأمر لا يتعلق بنزوة عابرة أو مزاج متقلب لمجموعة من المراهقين مفتوني الأدرينالين… بل المسألة أبعد من ذلك بكثير، لدرجة أن حتى من لا يفقه شيئا في الكرة أو لا يفرق بين “أوف سايد” و”كورني” صار مضطرا للتوقف، وفرك عينيه، والتساؤل: واش بصّح؟ واش ولىّ الديربي بلا جمهور بحال الكسكس بلا خضرة؟

البلاغ المشترك الذي صدر عن فصائل “الغرين بويز” و”الوينرز” و”إيغلز” كان بمثابة صفعة حضارية لواقع رياضي وسلطوي يقبع في كهف العشوائية والبريكولاج. فالمقاطعة لم تكن فعلاً احتجاجياً بقدر ما كانت درساً عميقاً في التربية المدنية… من تلك الدروس التي لا تقدمها المدارس العمومية ذات الطاولات المكسورة، بل تلقنها مدرجات الكورفا سود والكورفا نورد على وقع الدخان والأهازيج والكرامة.

فحين تقرأ أن الجماهير اتفقت على القرار بصمت، ولم تدعُ إليه علانية، احتراما لحرمة المدينة في لحظة احتقان، فاعلم أنك أمام وعي جماعي أعلى من مستوى الكثير من الوزراء والبرلمانيين. ليس لأن هؤلاء يفتقرون للقدرة، بل لأنهم يفتقرون للنية، و”النية زينة” كما نقول.

تعال نبدأ من الملعب، أو قل المقبرة الكروية التي تسمى محمد الخامس. مركب جرى ترقيعه ثلاث مرات في ظرف ثمان سنوات، كل مرة بتكلفة تفوق سابقتها، والنتيجة: مدرجات متآكلة، أعمدة صدئة، كراسي أقل راحة من حجر الزاوية في ساحة جامع الفنا، وشاشات لا ترى منها غير نفسك. الإصلاح صار مثل مسلسل مكسيكي طويل، فيه حوارات عقيمة، وبطء قاتل، ونهايات مخيبة.

ثم يأتي المنع والتضييق، وكأن الجماهير تحضر إلى الملاعب لإشعال الحرب الأهلية. تقييد التنقلات، قرارات الويكلو العشوائية، وكيل بمكيالين بين مدن المملكة، حتى بدا أن عشق الفريق صار تهمة، وتشجيعه جنحة، والانتماء إليه جريمة.

ولا ننسى تهميش الدار البيضاء، العاصمة الاقتصادية التي صارت بلا قاعة رياضية محترمة، بلا ملعب حديث، بلا مرافقة لائقة، بلا شيء تقريباً… مدينة قدّمت لكرة القدم المغربية رجالات، وتاريخاً، وألقاباً، لكنها اليوم تحصد التجاهل. ملعب جديد يبعد بـ50 كلم، قاعات رياضية ترفض استضافة الأندية وتفضّل سهرات الشيخات، وكأن الرياضة رجس من عمل الشيطان يجب محاربته.

أما عن الأحكام القضائية التي تنهال كالمطر على شباب الألتراس، فهي مأساة عدالة لا تزن الأمور بميزان. عشر سنوات، خمس عشرة سنة، لأفعال أحياناً لم تسفر حتى عن إصابات… فقط لأنهم ينتمون لمجموعة يراها البعض خطراً على “السلم العام”، بينما الخطر الحقيقي يكمن في الأحياء الهامشية التي تُفرّخ الجريمة بلا حاجة لمدرج أو تيفو. أليس الأجدر أن نسأل: لماذا الشاب لا يجد متنفساً غير الألتراس؟ لماذا الألتراس صارت العائلة الوحيدة لمن لفظتهم كل المؤسسات؟

والإعلام… يا سلام على الإعلام. صار بعضه يتقن الرقص على جراح الجمهور، يوزع الوطنية والخيانة حسب المزاج، ويطلق الشتائم من خلف الميكروفونات دون حسيب ولا رقيب. أي وطنية تلك التي تُمنح لمن يشتم جمهور بلاده لأنه قاطع مباراة؟ وأي خيانة في أن تقول: “كفى من العبث”؟

ثم تأتي القشة التي قصمت ظهر البعير، تلك التصريحات التي تفيض غطرسة واستعلاء، من قبيل “لي بغا الدار البيضاء يجلس فيها”. وكأن المدينة بُنيت من عرق سلالة نادرة لا يحق لعامة الناس الانتساب إليها. وكأن جمهورها مجرد صور تُستخدم لتجميل الشاشات أمام لجنة التنظيم أو عند الترويج لبطولة باتت بلا طعم ولا نكهة.

في النهاية، المقاطعة ليست انسحاباً. المقاطعة كانت فعلاً مقاوماً. كانت صرخة ضد التردي، وضد أولئك الذين يريدون من الجمهور أن يصفق حين يُسرق، ويهلل حين يُهمّش، ويغني حين يُهان.

ولمن يسأل اليوم لماذا انتهى الديربي بلا جمهور: اسألوا عن الحُب الذي اغتاله الإهمال، عن الشغف الذي قُزّمت أحلامه، عن المدينة التي تُقصى من كل شيء إلا من الفواتير الثقيلة. اسألوا عن الدار البيضاء التي قالت كلمتها بصمت… وسمعها العالم أجمع.

فالمقاطعة ليست فراراً من العشق، بل دفاعٌ عنه.

جاء هذا النص الكامل استنادًا إلى البلاغ المشترك الصادر عن مجموعات الألتراس الممثلة لجماهير الرجاء والوداد، والذي عبّرت فيه عن الأسباب العميقة والدوافع الحقيقية لمقاطعة ديربي السبت الأخير، الذي انتهى بنتيجة التعادل بهدف لمثله، في واحدة من أكثر المقاطعات تأثيرًا وجرأة في تاريخ الكرة الوطنية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.