رجل الأمن يسأل: هل هذه زوجتك أم مناسبة للابتزاز؟

ضربة قلم
في مسرح السلطة اليومية، حيث يُمكن لكلمة “المفهوم الجديد” أن تكتب بأحرف ذهبية في المذكرات الرسمية، وتُطبَع على لافتات الدورات التكوينية، وتُردَّد في الخطب الحماسية، بينما تُسحَب الكراسي من تحت أقدام المواطنين في الواقع بـ”المفهوم القديم جدًا” للسلطة… ذاك الذي يشبه العصا أكثر مما يشبه القانون، ويشبه الغضب أكثر مما يشبه الانضباط، ويشبه المزرعة الشخصية أكثر مما يشبه الخدمة العمومية.
صحيح أن الوضعية المادية لرجل الأمن اليوم ليست كالأمس. لم يعودوا يتغذّون حصريًا على الإضرابات كما كان الحال في القرن الماضي، حين كان تحسين وضعهم الاجتماعي يتطلب هزة وطنية أو نكتة سياسية ثقيلة. اليوم، على الورق على الأقل، أصبح رجل الأمن يعيش “كرامة المهنة”. لكن، يا حسرة، يبدو أن الكرامة لا تكفي وحدها لتغيير بعض العدسات الذهنية التي ينظرون بها إلى المواطن، خصوصًا إذا كان هذا المواطن يرتدي حذاءً غير لامع، أو يسوق سيارة ذات مرايا متدلية تشكو لله وحده.
خذ مثلًا هذا السيناريو المتكرر: مواطن مسكين، يسوق زوجته أو أخته أو من شاء الله أن تُرافقه، وفجأة تلمع شارة شرطي في الأفق. توقيف، نفخ في جهاز، تفتيش، وتبدأ الأسئلة التي تشبه محققًا في فيلم من الدرجة الثالثة: “شكون هادي؟”، “فين غاديين؟”، “عندك شي وثيقة تثبت؟” وكأن الزواج صار جريمة لا تثبت إلا بعقد رسمي في الجيب، أو الأخوّة تُقاس بدرجة لون البشرة وتشابه شكل الأنف. وإذا كانت مرافقتك مجرد صديقة، فـ”هنيئًا لك” بالسؤال الإبداعي: “شنو العلاقة؟”، وكأن العلاقة صحن طاجين يجب عرضه على السلطة القضائية قبل الخروج من المنزل.
ولا تسأل عن الموقف إن أخطأت في قانون السير، فهنا تدخل في نفق مسرحي من نوع خاص. قد تتحول المخالفة من مجرد نسيان حزام الأمان إلى تهديد للنظام العام. الشرطي، الذي يبدو كمن انتظر هذه اللحظة طوال حياته، ينتفخ كديك أمام عدو وهمي، ويبدأ في استعراض قاموس القانون، لكن بصيغة انتقائية جدًا، حيث تُصبح بعض الفصول مرنة كالعلكة، والبعض الآخر مقدسًا أكثر من الدستور. وإذا فكّرت في الاعتراض أو محاولة النقاش، فقد تُتهم بـ”إهانة موظف أثناء القيام بمهامه”، وهي التهمة الفضفاضة التي يمكن أن تُلصق بك لمجرد أنك تنفست بطريقة أزعجت حذاءه الجديد.
ثم دعنا من النصوص واللوائح، ونتحدث عن الكاريزما السلطوية التي يتمتع بها بعضهم، تلك التي تجعله يشعر أنه وصيّ على الأخلاق، ومراقب للنوايا، وخبير في علم النفس الجنائي. إنه لا يبحث عن تطبيق القانون بقدر ما يبحث عن إحساس بالهيمنة. أن يراك تتلعثم، تتوسل، تمد يدك إلى الجيب لتبحث عن الأوراق كأنك تبحث عن مغفرة إلهية، هذا هو النصر الحقيقي. أما القانون؟ فتلك مجرد خلفية ديكور تُستخدم عند الحاجة، أو لتغطية موقف محرج أمام الكاميرا، إن وُجدت.
والمشكلة الكبرى أن المواطن، في لحظة كهذه، لا يعرف لمن يشتكي. هل يسجل بالصوت؟ يُمنع. هل يصوّر؟ جريمة. هل يكتب شكوى؟ من سيصدّقه؟ الشرطي يملك “الصفة”، والمواطن يملك “الظن السيئ”. وحتى إن ذهب يشكو، فالتحقيق غالبًا سينطلق من فرضية: “لا دخان بلا نار، أكيد درتي شي حاجة خلاتو يتعامل معاك هكاك.”.
وهنا تدخل الحاجة فاطنة، التي رغم أميّتها، تملك قدرة خارقة على قراءة المواقف. تعلم تمامًا أن بعض السلوكات لا يمكن تفسيرها بقانون السير، ولا حتى بنظرية الردع، بل بتلك الرغبة الدفينة في ممارسة شيء من السلطة على من لا يستطيع الدفاع عن نفسه. الحاجة فاطنة تعرف أن بعض رجال الأمن لا يوقفونك لكونك مشبوها، بل لكونك متاحًا: لا تحمل لقبًا، لا تُجيد الصراخ، ولا تعرف أحدًا “فالفوق”.
كل هذا لا ينفي وجود رجال أمن محترمين، يؤدون واجبهم بنزاهة، ويعاملون الناس بما يُمليه القانون لا المزاج. لكن كما نقول دائمًا، القطرة اللي كتخنز البرمة، وبعض القطرات هذه الأيام عندها قدرة على تلويث بحار بأكملها.
والحاصل؟ أن المواطن البسيط يجد نفسه بين فكّي كماشة: إما أن يُظهر الخضوع التام كي ينجو من الشبهة، أو أن يُغامر بالقانون في بيئة لا تضمن له شيئًا. وبين هذا وذاك، تستمر المسرحية اليومية تحت عنوان كبير: “رحلة في دروب السلطة… دون ضمان للرجوع سالمًا، حتى لو كنت تحمل كل الوثائق!”