رحيل عميد الأخلاق والضمير الحي: محمد السيحاني

ضربة قلم
بقلوب يعتصرها الأسى، وعيون لا تخجل من الدمع، ودّعت مدينة المحمدية هذا الصباح واحدًا من رجالها الشرفاء، الذين عبروا الحياة بخُطى ثابتة، متوشحين بلباس الكرامة، ومسلحين بسلاح الأخلاق: الحاج محمد السيحاني، الذي غادرنا عن سن تناهز الخامسة والسبعين، بعد مسار طويل من العمل الصادق والعيش الشريف.
الفقيد، الذي التحق بسلك الشرطة في بداية السبعينات، كان أحد الوجوه التي لا تخطئها العين ولا الذاكرة. اشتغل سنوات طويلة في مطار محمد الخامس الدولي، حيث عرفه زملاؤه وعرفه المسافرون كرجل مبدئي، صلب في مواقفه، عطوف في معاملته، لا يُغريه المنصب، ولا يُثنيه الموقع عن قول الحق وفعل الصواب. تقاعد برتبة عميد شرطة، وخرج من بوابة الإدارة كما دخلها: نظيف اليد، مرفوع الرأس، مستقيم السيرة.
محمد السرحاني لم يكن مجرد موطف في سلك الشرطة، بل كان ضميرًا يمشي على الأرض، وكان من النوع الذي يجعل الناس، حين يرحل، يراجعون ذاكرتهم ليقولوا: “رحل رجل نقيّ، لم نسمع عنه يومًا سوءًا، ولم نر منه إلا كل خير”. وهذا هو أعظم ميراث يمكن أن يتركه إنسان خلفه: ذكر طيب لا يُشترى، ومحبة صافية لا تُفرض، بل تُنتزع بما كان عليه من صدق ونبل.
لم يكن محمد السرحاني ممن يتكلمون كثيرًا، بل كان حضوره وحده يكفي ليعكس حجم ما يحمل من وقار وهيبة ونبل. كان يؤمن بالكفاف والعفاف والغنى عن الناس، وكان يرفض المساومة على كرامته كما يرفض مدّ اليد لغير الله، يخطّ حياته بمبادئ راسخة لا تتبدّل، ويجسّد في سلوكه اليومي قِيم جيل نادرٍ لا يساوم ولا يخون.
كانت المحمدية تعرفه، ليس فقط كوجه أمني، بل كأحد رموز الطهر المدني والصدق الأخلاقي. في مدينة شفافة كالمحمدية، يعرف الناس من جمعوا المال كيفما اتفق، ويعرفون في المقابل من عاشوا أعزاء، وخرجوا من الحياة كما دخلوا: أنقياء لا يحملون في جيوبهم إلا الذكرى الطيبة.
لقد كان الفقيد قريبًا من الناس، لا بحضوره الجسدي فقط، بل بما كان يتركه في النفوس من أثر. لم يكن مجرد موظف، بل كان مدرسة في الشرف والضمير، يُذكّر من يعرفه بأن الدولة يمكن أن تفخر بأمثاله، وبأن الوظيفة العمومية لا تفسد الطينة النقية، إذا كانت الجذور صلبة والأصل نقيًا.
ورغم صعوبات الحياة، لم يتنازل محمد السرحاني عن مبادئه. لم يكن من أصحاب العقارات ولا الأرصدة، لكنه ترك ما لا يُشترى ولا يُباع: سمعة ناصعة، وأبناء تربّوا على الكبرياء والنزاهة، علما أن اثنين منهم اضطرا إلى الهجرة نحو أوروبا بحثًا عن أفق كريم.
لقد مضى هذا الرجل النبيل، تمامًا كما عاش: في صمت، دون ضجيج، لكن صدى رحيله دوّى في قلوب من عرفوه، لأن الفقدان لا يُقاس بالصوت، بل بوزن الفراغ الذي يتركه الراحل في القلوب.
محمد السرحاني لم يكن عابرًا في هذه الحياة. كان ضوءًا خافتًا في زمن العتمة، وكان صلابة في وقت الانكسار. ترك وراءه أثرًا لا يُمحى، وسيرة تُروى، واسمًا حين يُذكر تُردّد خلفه دعوات صادقة من قلوب مدينة بكاملها.
عاش الفقيد الحاج محمد السيحاني في حي شعبي من أحياء المحمدية، حيث تشكّلت ملامحه الأولى، واختلط صوته بأصوات البسطاء، وتربّت مبادئه على قيم العفة والنزاهة والاحترام. لم يغيره المنصب، ولم تغره سنوات العمل والمسؤولية، فظلّ وفيًا لجذوره، لم يكن يطمح في الانتقال إلى حي أرقى، ولا يرى في الرقي عنوانًا للمكان بل للموقف. وكما عاش متواضعًا بين أهله وجيرانه، رحل عن هذا العالم في نفس الحي الذي احتضنه صغيرًا ورجلاً وأبًا، تاركًا وراءه سيرة رجل لم تنفصل يومًا عن نبض الناس ولا عن دفء الأرض التي أنجبته.
رحيله اليوم ليس فقط فَقْدًا لأسرةٍ مكلومة، بل هو خسارة معنوية لمدينة تُصارع يوميًا زحف التلوث الأخلاقي، وتفتش عن نماذج يُقتدى بها وسط هذا الضباب الكثيف من الانتهازية والجشع. وقد كان محمد السرحاني من بين أولئك القلائل الذين لم ينحنوا للعاصفة، ولم يُلوّثوا سيرتهم بوصمة، فكان نموذجًا حيًا للنزاهة ولحب الوطن دون مقابل.
وبهذه المناسبة الأليمة، نتقدّم بأصدق عبارات التعزية والمواساة إلى أرملته الصبورة، وإلى أنجاله البررة، سائلين الله أن يربط على قلوبهم، وأن يكرم مثوى فقيدهم، ويجعل قبره روضة من رياض الجنة، ويجزيه خير الجزاء على ما قدّمه من خُلق وعطاء.
رحمك الله رحمة واسعة، وأسكنك فسيح جناته، وألهمنا وأحبّتك الصبر والسلوان.
سلام على روحك الطاهرة يا سي محمد، وسلام على كل من اختار درب الشرف حتى آخر لحظة.
وإنا لله وإنا إليه راجعون.