مجتمع

رحيل في الظل: مأساة رجل لم يسأله أحد عن وجعه

ضربة قلم

في مساء ربيعي خافت الضوء، تسللت أخبار الفاجعة إلى الأزقة القديمة لصفرو، كأنها وشوشة حزينة في أذن مدينة لم تستفق بعد من تعب اليوم. رجل ستيني، معروف بين جيرانه بهدوئه وتواضعه، لفظ أنفاسه الأخيرة في صمت، داخل جدران مسكنه المتواضع بحي لالة مولاتي. لا صراخ، لا عراك، لا علامات واضحة للعنف، فقط جسد هامد، وسكون ثقيل خيم على المكان كما لو أن الزمان قرر أن يتوقف احتراما لرحيله.

لم يكن الرجل نجما في سماء الشهرة، ولم تلاحقه أضواء الكاميرات، بل كان أحد أولئك الجنود المجهولين ممن يسمونهم “أعوان سلطة”، يعمل في الظل دون أن يُلتفت كثيرًا إلى تعبه. مكلف بمهمة في حظيرة السيارات التابعة لعمالة صفرو، يؤدي واجباته بروح الانضباط، لا يعلو صوته، ولا يُرى متذمرًا. لكن خلف هذا الهدوء الخارجي، كان ثمة شيء يتآكله، شيء لم يلحظه أحد، أو ربما لاحظه البعض ثم مروا عليه مرور الكرام، كما نفعل جميعًا حين نواجه ألمًا لا نملك له دواء.

حين عُثر عليه جثة بلا حياة، بدا وكأن الزمن توقف للحظة. أجهزة الأمن، السلطات المحلية، الجيران، الجميع حضر، لكن لا أحد استطاع أن يجيب عن السؤال الأبسط: “لماذا؟”. النيابة العامة سارعت إلى فتح تحقيق، والجثة أُحيلت على التشريح الطبي، فالوفاة “غامضة”، لكن الغموض الحقيقي ربما لا يوجد في الجثة، بل في الحياة التي سبقتها، في الوحدة التي عاشها الرجل، في الأحمال التي كان يحملها وحده دون أن ينطق بها.

مصادر مقربة تحدثت عن اضطرابات نفسية ومشاكل اجتماعية أثقلت كاهله، وربما كانت كافية لدفعه نحو قرار نهائي بصمت. لا رسالة وداع، لا دليل دامغ، فقط شبح لانتحار محتمل يتسكع في الأذهان، كأنه يبحث عن تصديق. لكن حتى لو لم يكن الأمر انتحارًا، أليس الموت صامتًا بهذا الشكل شكلًا من أشكال الانهيار؟

الحادثة لم تمر مرور العابر العادي، فقد تركت رجع صدى قويًا في نفوس زملائه وفي وجدان ساكنة الحي. الكل فوجئ، الكل تألم، والكل تساءل: ما الذي يمكن أن يدفع إنسانًا عاش في قلب المنظومة إلى هذا الرحيل البارد؟ وهل كانت هناك إشارات مسبقة ضاعت في زحمة الإهمال اليومي؟ هل نعرف فعلاً أولئك الذين نراهم كل يوم ببزاتهم الرسمية، وهم يحملون فوق أكتافهم هموم إدارة بكاملها ولا يملكون منها إلا المرتب القليل والتعليمات التي لا تنتهي؟

من السهل أن نتحدث عن مهام أعوان السلطة، عن أشغالهم المختلفة، عن تقاريرهم اليومية، عن دورهم في مراقبة الأحياء وضبط الحياة العامة، لكن من النادر أن نتساءل: من يراقب حالتهم النفسية؟ من يعينهم على الصبر؟ من يطمئن على أرواحهم حين تنهكها ضغوط العيش والعمل معًا؟ لقد تحوّل عون السلطة في كثير من الحالات إلى واجهة يضربها الجميع، الإدارة تعصره، والمواطن لا يرحمه، والشارع يشك فيه، وأحيانًا حتى أقرب الناس إليه لا يدركون تمامًا أنه يذوب ببطء كشمعة.

وفاة هذا الرجل، مهما كانت أسبابها، ليست حادثًا فرديًا. إنها جرس إنذار، صفعة للوعي العام، ومرآة تعكس هشاشة الوضع النفسي والاجتماعي لشريحة نادرا ما تُسمع لها كلمة، ولا تُؤخذ معاناتها على محمل الجد. لا يكفي أن نُشيّع جثمانًا ونقرأ الفاتحة، فذلك لا يعيد الإنسان إلى الحياة، ولا يصلح واقعًا مختل التوازن.

ربما حان الوقت كي نعيد النظر، لا في ملفات أعوان السلطة، بل في إنسانيتهم. لنسأل عنهم وهم أحياء، لا حين يصبح السؤال بلا جدوى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.