زمن الفهامة الزايدة: كلشي عارف، كلشي ذكي وكلشي أناني

ضربة قلم
في بلاد تحترف العيش على أعصابها، لا تحتاج إلى شهادة دكتوراه كي تدرك أننا نعيش في زمن “كلشي فاهم، كلشي ذكي، كلشي أناني”. إنه العصر الذهبي لمن يُقاطع السياسة في العلن ويتقن الفهلوة في الخفاء، من يُشخّص أزمة التعليم وهو يشتري فروخ المراقبة لأبنائه، من يسبّ الفساد ويبحث عن “واسطة” لنقل زوجته إلى أقرب مدرسة، ومن يبكي على الغلاء وفي جيبه ثلاث هواتف ذكية واشتراك في نتفليكس واشتراك آخر في كذبته اليومية على نفسه.
إنه زمن التحليل السطحي الرخيص، حيث الجميع لديه تفسير نهائي للواقع: “السياسيون كلهم شلاهبية”، “الأساتذة ما باغينش يخدمو”، “الموظفون كيخدمو نهار ويتركونك شهر”، “الشعب خواف”، “المخزن ظالم”، “العيالات طامعات”، “الرجال ما بقاش فيهم الخير”، كل شيء واضح، كل شيء محكوم عليه بالإعدام الجماعي بلا محاكمة، فالجميع أصبح قاضياً وجلاداً ومحللاً نفسياً وسياسياً واقتصادياً في آن واحد. مقاهي الحي تتحول إلى مجالس وزراء مرتجلة، وجلسات الحلاقة تتحول إلى ورشات لتصحيح المسار الاقتصادي الوطني. كل من يملك صوتاً يملك رأياً نهائياً لا يقبل الطعن ولا الاستئناف.
أما الذكاء، فحدث ولا حرج. لا أحد يعترف بأنه لا يعرف. الجميع “عارف كلشي”. لا مكان لعلامات الاستفهام. كل من تشكّ في قدراته ستجده بعد لحظات على تيك توك يلقي دروساً في النجاح وتطوير الذات، وقد ينهي اليوم ببيع دورة في الذكاء الاجتماعي على واتساب. الذكاء هنا لم يعد يعني الفهم، بل القدرة على التحايل، على التمويه، على الركوب على أي موجة مادام فيها “البوز”. صارت التفاهة واجهة ذكية لمجتمع يتقن الغرق في التفاصيل ويهرب من الأسئلة العميقة، كأننا نتواطأ جميعاً على قتل الحقيقة يومياً ونبكي عليها على الفايسبوك مساءً.
لكن الذكاء لا يكفي وحده، لا بد أن يُقرن بالأنانية. فالأناني هو بطل المرحلة. يناضل لأجل إصلاح الحي إذا انقطعت عنه الكهرباء، ويطالب بتعبيد الزنقة إذا تعثرت سيارته، ويكتب عن القيم إذا أهينت كرامته، ويخوض المعارك الرقمية إذا مست مصالحه. شعار المرحلة: “أنا وبعدي الطوفان”، بل الأحرى أن نقول: “أنا والطوفان معاً، ما دام سيغرق الآخرين أولاً”. الجميع يطلب الدولة، ولا أحد يريد أن يكون جزءاً من حلها. الجميع يصرخ ضد الغلاء، لكن أول ما يفعلونه هو التلاعب في الأسعار في أول فرصة. الجميع يهاجم الاحتكار، لكنه يحلم بأن يكون محتكرًا ذات يوم، فقط إن “سهالت عليه الأمور”.
في الشارع، في العمل، في البيوت، في العلاقات… باتت الأنانية هي المرجع الأخلاقي الوحيد. الصداقة؟ تُقاس بما يمكن أن تجره من منفعة. الحب؟ يُوزن بميزان المصلحة. حتى العمل الخيري صار وسيلة لتلميع الصورة أو التقرب من “أصحاب القرار”. لا أحد يريد أن يُؤذي أحداً، لكن لا بأس إن مات غيره جوعاً مادامت الثلاجة ممتلئة. لا أحد يعترف بأنه يستغل الآخرين، لكنه يسمي ذلك “تدبيراً ذكياً للموارد البشرية”. لا أحد يسمي خيانته خيانة، بل “تغيير اتجاه”.
والمؤسف، أن هذه التركيبة الجماعية من الفهم المزعوم، والذكاء المصطنع، والأنانية الصارخة، أصبحت نظام حياة. أصبح من الغريب أن تكون صادقاً، أو أن تقول “لا أعلم”، أو أن تعطي دون مقابل. صار الإنسان النزيه أشبه بكائن مهدد بالانقراض، ينظر إليه الناس كما ينظرون إلى حيوان غريب في حديقة مهجورة: بدهشة وريبة وابتسامة صفراء.
في النهاية، حين تتجمع كل هذه السمات في مجتمع واحد، لا يعود من الغريب أن تظل الأزمات تراوح مكانها، وأن تتحول العبقرية إلى لعبة شعبية، وأن تصبح الأخلاق موسماً عابراً يظهر فقط في رمضان. وحين تسأل: من المسؤول؟ ترتفع الأصابع، لا للإجابة، بل لتوجيه اللوم للآخر. لأننا جميعاً فاهمون، وجميعاً أذكياء، وجميعاً… أنانيون جداً لدرجة أننا نُجيد جلد الجميع، إلا أنفسنا.