سكنيات تعليمية محتلة… المرافق العمومية تتحول إلى غنائم شخصية

ضربة قلم
في عدد من المؤسسات التعليمية بمختلف جهات المملكة، أصبح مشهد احتلال السكنيات الوظيفية والإدارية من طرف موظفين غادروا المؤسسة أو حتى سلك التعليم بأكمله، مشهداً عادياً، بل معتادًا، رغم ما يخلقه من ظلم واضح واختلال صارخ في تدبير واحد من الملفات الحساسة داخل المنظومة التربوية.
والمقصود بالسكنيات هنا، تلك المساكن التي وضعت رهن إشارة الأطر التربوية والإدارية طيلة مدة عملهم بالمؤسسة المعنية، لاعتبارات تتعلق بالمهام، والاستقرار، ومتطلبات الوظيفة. لكن المفارقة المؤلمة، أن عدداً كبيراً ممن انتهت مهامهم، أو تم إعفاؤهم، أو استفادوا من الانتقال، أو حتى أحيلوا على التقاعد، يرفضون إخلاء هذه المساكن، ويتمسكون بها وكأنها أملاك خاصة، وليسوا ملزمين قانونًا أو أخلاقيًا بتسليم المفاتيح.
وفي الوقت الذي يعاني فيه عدد من الأساتذة الجدد من مشكل غياب سكن وظيفي، خصوصًا في العالم القروي أو بالمناطق البعيدة، تظل هذه السكنيات مغلقة أو محتلة عنوة من طرف من لم يعودوا يحق لهم التمتع بها، ما يخلق شعورًا عميقًا بالظلم وغياب العدالة في صفوف الشغيلة التعليمية.
والمثير أن من بين هذه الحالات، ما يمكن أن يُعتبر رمزًا فاضحًا للمفارقة الأخلاقية: أحد نواب الوزارة السابقين، الذي كان حريصًا – طيلة فترة عمله – على تطبيق الإجراءات القانونية بصرامة في وجه زملائه، ولم يكن يتردد في توقيع قرارات الإفراغ ومراسلة المصالح المركزية، بدعوى حماية المؤسسات وتطبيق القوانين الجاري بها العمل. غير أنه، حين أحيل هو نفسه على التقاعد، رفض مغادرة المسكن الوظيفي الذي ظل يشغله لسنوات، ولم يخرج منه إلا بعد مسطرة طويلة انتهت بإخراجه “مدلولا”، بعدما استُنفدت كل سبل التفاهم والإقناع.
وفي إحدى المؤسسات التعليمية بجهة وسط المملكة، لم تغادر مديرة سابقة المسكن الوظيفي إلا بعد أن خربته عن آخره، حيث تركت الأبواب والنوافذ مكسّرة، والمطبخ مخلوعًا، والحنفيات منتزعة من مكانها، في مشهد عبثي لا يليق بمكان يفترض أن يكون مرفقًا عموميًا تابعًا لوزارة التربية الوطنية. خروج جاء مُتأخرًا وبعد مماطلة طويلة، لتخلف وراءها مسكنًا غير صالح حتى للاستعمال الآدمي، ناهيك عن التكلفة التي ستتحملها المؤسسة لإعادة تأهيله.
الحالات كثيرة ومتعددة، منها من تقاعد منذ سنوات وما زال يحتل السكن، ومنها من انتقل إلى مدينة أخرى لكنه آثر ترك المسكن مغلقًا في وجه من يستحقونه فعلًا. بل إن بعض الموظفين يحتفظون بالسكنيات لتأجيرها خلسة، أو تحويلها إلى مقرات عائلية، دون حسيب أو رقيب، ما يحرم الأطر الحالية – التي تعمل فعليًا بالمؤسسات – من حقها المشروع في الاستفادة من سكن يحترم كرامتها وظروف عملها.
الغريب في الأمر أن الوزارة الوصية، رغم إصدارها المذكرة 40 سنة 2004 التي تؤطر شروط الاستفادة من هذه المساكن، تلتزم صمتًا غير مبرر أمام هذه الفوضى، وكأن الأمر لا يعنيها، تاركة رؤساء المؤسسات بين مطرقة غضب الموظفين الجدد وسندان “الأشباح” الذين لا يغادرون السكن حتى بعد مغادرتهم الفعلية للوظيفة.
إن الاحتقان يتفاقم يومًا بعد يوم داخل أوساط الشغيلة التعليمية، ليس فقط بسبب انعدام الشفافية في تدبير هذه المساكن، بل أيضًا لأن من يحتلونها عنوة لا تتم مساءلتهم ولا محاسبتهم، مما يرسل رسالة خاطئة مفادها أن “من يحتل يسلم”، ومن يطالب بحقه يُهمَّش أو يُطالَب بـ”تفهم الوضع”!
إن المرفق العمومي ليس ميراثًا، والسكن الوظيفي ليس غنيمة، والوزارة مطالبة – لا مطالبة فقط، بل ملزمة – بوضع حد لهذا العبث، إما بتحريك مساطر الإفراغ الجبري، أو على الأقل بالقطع مع منطق التراخي الذي صار القاعدة بدل أن يكون الاستثناء.
فإلى متى ستظل بعض المساكن التعليمية رهينة لدى من لا يربطهم بالمؤسسة سوى الذكريات؟ وإلى متى ستظل كرامة الموظف النزيه مرهونة بصدف الحركة الانتقالية وسوء الحظ مع “سكنيات محتلة”؟