دفاتر قضائية

سماسرة العدالة: عندما يصبح الوهم أقصر طريق إلى المحكمة!

ضربة قلم

سماسرة المحاكم، كائنات أسطورية لا تنقرض رغم حملات “الإبادة” الموسمية. يعودون كل مرة مثل الزكام في فصل الشتاء، لا دواء يوقفهم، ولا كمامة قانونية تمنعهم من التسرب إلى أوكار الكواليس. في محاكم المملكة، ليس الغريب أن تبحث عن العدالة وتجد الانتظار، ولكن ما ليس له تفسير علمي حتى الآن هو كيف تظهر هذه الكائنات في كل زاوية من زوايا المحكمة، يبتسمون بابتسامة توحي بأنهم إما أولياء لله أو أبناء عمومة القاضي.

وها نحن اليوم أمام حلقة جديدة من مسلسل “السماسرة والنيابة”، حيث جرى توقيف نصاب محترف في محيط المحكمة الابتدائية بإنزكان، وهو على وشك ممارسة هوايته المفضلة: بيع الوهم بترخيص ذاتي. الرجل لم يكن يحمل بطاقة مهنية، ولا رخصة تدخل في شؤون القضاء، لكنه كان يملك شيئًا أهم بكثير: لسانًا طويلًا ومخيلة خصبة.

السيدة المسكينة -ضحية الحيلة الكلاسيكية- جاءت إلى المحكمة باحثة عن بصيص عدالة، فوجدت أمامها من يهمس لها: “أختي، الأمور محسومة… غير عطيني وارتاحي، أنا كنعرفهم كاملين، من وكيل الملك حتى اللي كيصاوب الطباشير فباب المحكمة”.
طبعا، لا شيء يضاهي ثقة النصاب المغربي حين يتحدث، فهو لا يكتفي بإقناعك، بل يجعلك تشك في نفسك: “كيف لم أكن أعلم أن العدالة تمر عبر هذا الرجل الذي يرتدي جلابية متسخة ويحمل هاتفا مكسورا؟”. هو لا يُشبه القانون، لكنه يتحدث مثله، بل أحيانًا أكثر فصاحة من المحامي نفسه. يعرف كل شيء: من جلسات المحاكمة إلى من يحب القاضي شايه بدون سكر.

لكن اليوم، وعلى غير عادة القصة التي نعرف نهايتها مسبقًا، أوقفته الشرطة، وهو متلبس بلحظة “النصب الجنائي”، ممسكًا بالضحية من جهة، وبالوهم من الجهة الأخرى. وقد تم اقتياده -بكل احترام طبعًا- إلى الحراسة النظرية، حيث سيُستجوب ليس عن عدد ضحاياه، بل ربما عن سر تكرار هذه الكائنات رغم كل الحملات والدورات التكوينية في الأخلاق القضائية.

النيابة العامة بإنزكان تقول إنها دشّنت حملة ضد سماسرة المحاكم. جميل. لكن السؤال الذي يطفو هنا كفقاعة في حمام العدالة: من الذي فتح الباب لهؤلاء في البداية؟ هل تسللوا عبر النوافذ؟ هل زحفوا ليلاً تحت الطاولات؟ أم أن هناك من يبتسم لهم في الممرات ويقول: “سير الله يعاونك، غير ما تشدش اليوم قدام الكاميرات”.

سماسرة المحاكم ليسوا مجرد نصابين، إنهم انعكاس لثغرات أعمق: انعدام الثقة في المؤسسات، بطء المساطر، واعتقاد راسخ بأن العدالة تُشترى مثل الخبز، فقط بثمن أعلى. إنهم نبت شيطاني في تربة فاسدة، يزهر كلما تأخر حكم، أو تعطلت جلسة، أو تضخم ملف.

ثم هناك مشهد الختام الكوميدي: بعد التحقيق معه، سيُعرض على النيابة، التي  -لنكن واقعيين-  ستعرضه على المحكمة، التي -غالبًا- ستُدينه بالسجن أشهر معدودات، قبل أن يعود إلى الساحة من جديد، بلغة أقوى وتجربة أغنى. وربما سيجري معه لقاء في أحد “اللايفات” يقول فيه: “أنا ماشي نصاب، أنا وسيط، ومندمج في محيط العدالة بطريقة غير مفهومة قانونيًا”.

وفي النهاية، ستبقى إنزكان كما هي، وستبقى المحاكم المغربية مسرحًا مفتوحًا لشخصيات تتكرر: سماسرة، ضحايا، وشرطة تحاول القبض على الدخان، في حين يمر الهواء الملوث من تحت الأبواب. فقط المواطن سيظل في المنتصف، بين الأمل في عدالة شفافة، والرعب من أن يبتسم له أحدهم في باب المحكمة ويقول: “آجي نعاونك، عندي معارف فوق ما تتصور…”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.