سيمفونية الركوع: حين تصير اليد التي تُقبّل أثقل من الوطن

م-ص
من أين نبدأ؟ من الزمان أم من المكان؟ أم من أولئك الذين ما فتئوا يحنّطون كرامتهم في علب كرتونية فاخرة، وينتصبون أمام المسؤول كما تنتصب الأعمدة البالية تحت السقوف الآيلة للسقوط؟ كم تغيرت الأسماء، قسم الشؤون العامة صار يُدعى “الشؤون الداخلية”، ولكن “الباطن” ظل على حاله: رطوبة الولاء، وتشققات التزلف، وتسربات الذلّ تحت أقدام المكاتب.
نتذكر جيدا سنة 1987، كانت الدنيا أبطأ، والمسؤول أكثر وزنا، لا لشيء سوى أن الكرسي كان يصدر صريرا يليق بقداسة الجالس عليه. دخلنا نسأل عن جواز سفر، وثمة جوازٌ للكرامة، ليس متاحًا للجميع. فجأة، الباب يُفتح بلا استئذان، كأننا في بيت الله لا في مكتب إداري. دخل الرجل البطل، لم يكن معه ملف ولا مطلب، فقط شفتاه الممددتان على نية التقبيل. تقدم نحو رئيس القسم كما يتقدم الدراويش إلى ضريح ولي صالح، ولسان حاله يقول: “خذني عبدا، فإني عبدك دون شرط أو قيد.” لكن المفاجأة؟ المسؤول كان أقل تصوفا مما ظن الرجل، نزع يده كما تُنزع سُجادة من تحت راكع، وقال: “واش حنا في الزاوية؟ اخرج.” لحظة من الصفاء النادرة، كأن البيروقراطية استيقظت فجأة وقررت أن تتخلص من طقوسها البدائية.
نقفز إلى 1996، ميناء المحمدية، والبحر خلفنا يلعن اليابسة في كل موجة. كنا في حضرة مدير الميناء، بين ملفات وملفات، حين دخل علينا مخلوق بريء من كل شيء إلا من الاستعراض. كنا نراه كل يوم وهو يسير في الشارع كأنه “موديل” خارج من إعلان لرونو 4، تلك السيارة التي كانت تبدو كأنها في طور التحلل وهي تمخر عباب الطرقات، كما تمخر الوزارات قرارات الإصلاح. سيارة تلبس لوحة حمراء… وهيبة الدولة. دخل هذا “المناضل”، وانحنى بنصفه الأعلى كمن يستعد للسجود، وفمه لا يكاد ينطق إلا بصوت “القبلة”. يا للدراما، الرجل الذي ظنناه فارس المدينة، اتضح أنه مجرد خيال ظلّ يبحث عن يد ليقبّلها ويشعر بأنه مهم، ولو لدقيقة.
وفي 2016، الرشيدية، الشمس تحترق فوق الرؤوس، لكن الظلال لا تسقط إلا على من يستحقها. رأينا ذاك المشهد العجيب: رجل ضخم كبرج مراقبة، طوله يتحدى السقوف، يحني ظهره ليحمل محفظة مديره القَزم. لم يكن المشهد عاديا، لقد كان استعراضا سرياليا للتراتبية: جسد بحجم الدولة يخضع لرجل لا يتجاوز ارتفاع كتيب قانون الوظيفة العمومية. من كان يحمل من؟ من يخدم من؟ من الذي يستحق هذه المحفظة الثقيلة بالمعنى الرمزي لا بالملفات؟ منظر يُدرّس في كليات الخنوع، محفظة تتحول إلى تابوت صغير للكرامة.
وهكذا، تسير الحياة من يد تُرفض تقبيلها، إلى يد يُتقرب منها كما يُتقرب من الأصنام. لا شيء تغير سوى ألوان الطلاء على الجدران: من الأخضر إلى الأزرق، من الشؤون العامة إلى الداخلية، من رونو 4 إلى “4×4″، لكن الروح بقيت هي ذاتها: روح خائفة، محنية، تبحث عن منفذ نحو جنّة الوظيفة أو عتبة القبول.
أما نحن، فنقف دائما في الزاوية المعاكسة، لا نُقبّل الأيادي، ولا نحمل محافظ أحد، نكتفي بأن نروي هذه الحكايات، كمن يعزف على آلة من زمنٍ آخر، حتى يقال يومًا: “كانوا هنا… يكتبون عن الذين لا يزالون يقبّلون اليد التي تصفعهم.