مجتمع

صحافة آخر الزمان: منبر أم مخفر؟

ضربة قلم 

في غفلة من الزمن، ومع زحمة الطموح الزائف، تسلل إلى مجال الصحافة بعض الكائنات التي لا تمت للمهنة بصلة، لا حسًّا مهنيًّا، ولا أخلاقًا، ولا حتى الحد الأدنى من الفهم لمفهوم الصحافة. هؤلاء، بدلاً من أن يكونوا عين الشعب ولسانه، صاروا أذناً طويلة للسلطة وعصا غليظة تُستخدم عند الحاجة. يعملون بلا خجل تحت إمرة القواد والباشوات وأجهزة الأمن، ولا ينسون طبعًا بعض المتبرعين بالبقشيش الذين يحددون خطهم التحريري بمبلغ يسد رمقهم اليومي.

إنهم كائنات هجينة، لا هم بالصحفيين، ولا هم بأعوان السلطة، لكنهم أقرب إلى ما يمكن تسميته بـ”صحافة المقدمين”. فبينما المقدم الحقيقي على الأقل لديه وظيفة واضحة ضمن هرم السلطة المحلية، هؤلاء يمارسون المهنة بطريقة تجعلهم أقرب إلى المخبرين والعملاء السريين منه إلى الصحفيين. ينقلون الأخبار لا إلى القراء، بل إلى مكاتب معينة، ويُصدرون مقالات بأسلوب ركيك، ليس وفقًا لمبدأ الحقيقة، بل بناءً على “المطلوب إنجازه”.

بين الدعارة الصحفية والقوادة الإعلامية

لو كان الانحطاط المهني رياضة أولمبية، لحصل هؤلاء على الميدالية الذهبية. لا يترددون في تلميع صورة الفاسدين، وشيطنة المعارضين، وشن حملات مدفوعة الأجر ضد كل من يتجرأ على كشف المستور. لا بأس لديهم في التحول إلى “كتائب إلكترونية” تشن هجومات شرسة، ثم ترتدي فجأة عباءة الصحافة الرصينة عندما يُطلب منها ذلك.

بعضهم تطور في المسار المهني بشكل غريب، فمن صحفي تحت الطلب، إلى مخبر متطوع، إلى “صاحب نفوذ” يستطيع بعمود صحفي واحد أن يحسم صراعات محلية أو أن يرفع فلانًا ويُسقط علانًا. وبينما يُمارسون الصحافة كواجهة، فإنهم مستعدون لممارسة أي “مهمة” أخرى تُطلب منهم والبقية مفهومة.

وفي لحظة، يتحولون إلى سماسرة نفوذ، يفتحون قنوات خلفية، يتوسطون في الصفقات المشبوهة، يتاجرون بالسمعة، ويضعون “أقلامهم” في خدمة من يدفع أكثر. إنهم ليسوا مجرد مرتزقة، بل أداة في يد من يجيد استخدامهم، حتى أن بعضهم أصبح يُلقب بين زملائه بـ”القواد الصحفي”، حيث لا يقتصر عمله على النشر، بل يمتد إلى “تنظيم لقاءات” لصالح بعض الشخصيات النافذة، وفق قاعدة: لكل خدمة ثمنها، ولكل مقال مقايضته الخاصة.

متى تنتهي هذه المهزلة؟       

الصحافة في أصلها مهنة نبيلة، تقوم على كشف الحقيقة، ومساءلة السلطة، ونقل هموم المجتمع. لكن ما نراه اليوم هو مشهد كاريكاتوري، حيث يتحول بعض “الإعلاميين” إلى مجرد أذرع تحركها السلطة متى احتاجت، وتكتم أفواهها متى أرادت.

لكن، رغم هذا الخراب الإعلامي، تبقى هناك أصوات حقيقية ترفض أن تكون جزءًا من هذه اللعبة القذرة، ترفض أن تتحول إلى سلاح بيد المتنفذين، وتقاوم هذا الطوفان من “الصحافة العاهرة”. ربما هم قلة، لكنهم يثبتون أن الصحافة لم تمت، رغم محاولات البعض دفنها تحت أنقاض “صحافة القوادة”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.