سياسة

صمت الهاتف… إدريس البصري وسقوط الصداقات في دهاليز السلطة

ضربة قلم

ما جرى لإدريس البصري ليس مجرّد حادثة شخصية أو فصل معزول في كتاب سياسي طويل، بل هو تجسيد حي لمعضلة إنسانية ــ نفسية واجتماعية ــ تتكرّر في مختلف الأزمنة والأنظمة: معضلة السلطة حين تنقلب على صاحبها، وتُحوّله من مركز القرار إلى هامش الذاكرة.
ولعل ما وقع للبصري بعد عزله من وزارة الداخلية، حيث ظل على رأسها عقودًا خلال حكم الملك الراحل الحسن الثاني، هو في جوهره دراما إنسانية تُكشف فيها هشاشة العلاقات، وتُختبر فيها صداقات السلطة تحت ضوء الحقيقة الباردة: أن الكل كان حول الكرسي لا حول الرجل.

سلطة البصري: الرجل الذي كان دولة داخل الدولة

إدريس البصري لم يكن وزيرًا عاديًا. كان أشبه بمفصل مركزي في جسد النظام المغربي خلال حقبة حساسة امتدت على ما يقارب ربع قرن. فقد أمسك بمفاتيح الدولة الأمنية والإدارية والإعلامية، بل وحتى الحزبية في بعض الأحيان. لا تُذكر وزارة الداخلية في المغرب الحديث دون أن يَحضُر اسمه بوصفه رمزًا للقبضة الحديدية، لكنه أيضًا كان رجل “التوافقات الخفية”، يجلس مع المعارضين في الليل بعد أن يقرّر مصيرهم في النهار.

في بيته، دارت حوارات مصيرية. هناك وُزِّعت مناصب، واحتُويَت أزمات، وتمّت المصالحات والمقايضات. ومع ذلك، لم يكن أحد يتجرأ على مساءلته أو معارضته علنًا. كان البصري مدرسة في فن التحكم، وإدارة التناقضات، وتوزيع الولاءات. ولأنه كان بهذه المكانة، ظنّ أن شبكة العلاقات التي نسجها ستحميه إلى الأبد. لكن خاب الظن.

اللحظة الفاصلة: حينما يسقط الرجل ولا يبقى إلا الكرسي

حين أعفاه الملك محمد السادس من منصبه سنة 1999، لحظةٌ فُسِّرت حينها بأنها بداية “العهد الجديد”، انهار العمود الذي كان يسند الكثير من الطموحات والمصالح والولاءات.
البصري وجد نفسه، فجأة، بلا جهاز، بلا سلطة، بلا هاتف أحمر. فجرّب شيئًا بسيطًا جدًا: أن يتصل بصديق طفولته. ليس بوزير أو والي أو جنرال. بل بصديق عرفه يوم لم تكن هناك مناصب ولا هياكل ولا تراتبيات. ومع ذلك، لم يُجِب الصديق.

تخيل فداحة الخيبة. ليست خيبة إدريس البصري بحد ذاتها، بل خيبة كل من يظن أن السلطة تبني روابط إنسانية حقيقية، أو أن “أصدقاء النفوذ” قد يثبتون حين تنهار الأعمدة.

في معنى الخذلان: حينما يغدرك القريب لا العدو

ما أشد أن تُخذل لا من خصم سياسي أو من إعلام يهاجمك بعد سقوطك، بل من شخص كنت ترشّحه للمناصب العليا، وكنت سببًا مباشرًا في صعوده، وكنت تظن أنك تعرف “معدنه”.
لكن السلطة تغيّر الجميع: تغيّر من هم في القمة، وتغيّر من يدورون حولها. في لحظة ما، يصبح الهاتف ثقيلًا، والردّ عليه تهديدًا. من كان “مجرد صديق”، صار يتصرف كأنه يقيّم ما إذا كانت المكالمة ستُحسب عليه.

ربما لم تكن هذه الحادثة هي الأهم في حياة إدريس البصري، لكنها الحادثة التي تختزل مأساة السلطة حين تتبخّر: أن من كانوا يدورون حولك، كانوا في الحقيقة يدورون حول ضوء نفوذك، لا حولك أنت.

من البصري إلى أيٍّ منا: الحكاية أكبر من الأسماء

لنكن واضحين: لا يتعلق الأمر بشخص البصري بقدر ما يتعلق بحقيقة عارية عن العلاقات في عالم النفوذ.
كلّ من يقترب من مراكز السلطة، سواء في المغرب أو خارجه، عليه أن يستحضر هذا الدرس القاسي: أن لا أحد يظل مُهابًا حين يفقد أدوات الهيبة.
وأن العلاقات التي تُبنى فوق السلالم المتحركة للمصالح، تنهار معها بمجرد انطفاء المصعد.

فليتعلّم من يرى نفسه اليوم في موقع القرار أن يميّز بين من يقبّل يده حبًا، ومن يقبّلها رهبة.
وأن يطرح على نفسه سؤالًا بسيطًا: من سيجيب على مكالمتي حين أفقد هاتفي الوزاري؟

خاتمة: ماذا تبقى بعد النفوذ؟

قد يكون من حسن حظ إدريس البصري أنه عاش ما عاش، ورأى ما رأى. فلحظة العزلة هي المرآة الحقيقية. لا تجامل. لا تزيّف. تكشف، فقط.
ربما لم يبكِ حين أُعفي من منصبه، لكنه حتمًا تألّم حين لم يُردّ عليه.

وفي النهاية، تبقى حكايته درسًا يتجاوز الأشخاص:

“لا تقف طويلًا أمام المرآة التي تلمع وأنت في السلطة، فالوجوه التي تراها قد تختفي في أول غيابك.”

ومن يدري؟ قد يكون إدريس البصري لحظة مغربية بامتياز، لكنها تصلح لأي مكان، وفي أي زمن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.