صناعة الإعدام الإعلامي: عندما تتحول الصحافة إلى منصة قضاة بلا ضمير

ضربة قلم
في المغرب، كما في أي دولة تدّعي احترام حقوق الإنسان، هناك مبدأ قانوني جوهري يُفترض أن يحكم كل مراحل التقاضي، وهو أن “المتهم بريء حتى تثبت إدانته”. لكن في بعض الصحف والمواقع الإلكترونية، يبدو أن هذا المبدأ مجرد شعار يُكتب في كُتيبات القانون دون أن يجد طريقه إلى صفحات الأخبار. إذ بمجرد أن يُعتقل شخص أو يُفتح تحقيق حوله، تجد عناوين نارية تصدر الأحكام القطعية قبل أن ينطق بها القاضي نفسه.
الصحافة في دور الجلّاد: متى أصبحت الجرائد محاكم؟
الصحافة ليست سلطة قضائية، ولا ينبغي لها أن تكون كذلك. لكننا نعيش في زمن تحوّلت فيه بعض وسائل الإعلام إلى أدوات للإعدام المعنوي، حيث تُصدر أحكامها دون حاجة إلى محامٍ أو شهود.
- “مجرم خطير في قبضة الأمن”
- “تفاصيل مثيرة عن الجاني في قضية الاحتيال”
- “الإطاحة بعصابة يقودها زعيم مافيا معروف”
مثل هذه العناوين ليست فقط مخالفة للأخلاقيات المهنية، بل إنها تُدمّر حياة أشخاص قد يخرجون من المحاكم أبرياء، لكنهم لا يخرجون أبداً من دائرة التشهير الإعلامي. فماذا لو برّأت المحكمة “المجرم الخطير”؟ هل سيُعيد الإعلام كرامته بمثل الضجة التي لوّث بها سمعته؟
حتى إن ثبتت الإدانة.. ما معنى “المجرم” في العمل الصحفي؟
لنفرض أن المحكمة أدانت شخصاً بجريمة، هل يحق للإعلام أن يُصنّفه كمجرم ويمسح منه صفته الإنسانية؟ الصحافة الرصينة تعرف أن “المجرم” مصطلح قانوني يُطلقه القضاء وليس الصحافة. فعندما يحكم القاضي بالسجن على شخص ما، لا يعني ذلك أن الإعلام صار مخوّلاً للحديث عنه كوحش فقد حقوقه الاجتماعية والإنسانية.
القانون يُجرّم هذا العبث الإعلامي
في المغرب، القانون واضح: لا يجوز التشهير بالمتهمين أو التعامل معهم كمدانين قبل صدور حكم نهائي. الفصل 447-2 من القانون الجنائي يجرّم التشهير بأي شخص، ومع ذلك، نرى بعض الصحف تتعامل مع المتهمين كأنهم كائنات بلا حقوق، وكأن هناك متعة خاصة في تدمير سمعة الأفراد قبل أن يقول القضاء كلمته.
الحصانة الإعلامية مقابل غياب المحاسبة
لماذا تستمر بعض المنابر الإعلامية في هذا السلوك رغم وضوح القانون؟ السبب بسيط: لأن لا أحد يحاسبها. في حالات كثيرة، يضطر أشخاص بُرّئت ساحتهم إلى رفع دعاوى ضد وسائل الإعلام، لكن كم من متضرر يستطيع تحمّل هذه المعركة القضائية الطويلة؟
كيف يجب أن تتصرف الصحافة المحترفة؟
الصحافة الجادة لا تُصدر الأحكام، بل تنقل المعلومات بحيادية. وفي القضايا القضائية، هناك معايير لا يمكن تجاوزها، منها:
- استخدام مصطلحات محايدة: بدل “المجرم”، يجب استعمال “المتهم”، وبدل “العصابة”، يمكن استخدام “أشخاص يُشتبه في تورطهم”.
- عدم نشر صور أو معلومات شخصية قد تضرّ بالمتهم وأسرته.
- احترام قرينة البراءة حتى آخر درجات التقاضي.
- عدم تبنّي رواية طرف واحد، بل تقديم المعلومات بحياد.
عندما يصبح التشهير تجارة رائجة
في الحقيقة، المشكلة ليست فقط في عدم احترام أخلاقيات المهنة، بل في أن التشهير صار وسيلة سهلة لتحقيق المشاهدات والربح. المواقع الإلكترونية تبحث عن العناوين التي تثير الجدل، ولا شيء يجذب القارئ مثل خبر يتحدّث عن “مجرم خطير” أو “قضية تهزّ الرأي العام”.
الخاتمة: من يحاكم الإعلام؟
إن استمرار هذه الظاهرة يدفعنا إلى طرح سؤال أعمق: من يحاكم الإعلام عندما يتحوّل إلى محكمة ظالمة؟ في النهاية، لا أحد فوق القانون، حتى الصحافة التي تتلاعب بمصائر الناس. إذا لم يكن هناك وعي مهني وأخلاقي، فيجب أن يكون هناك رادع قانوني حقيقي يُجبر الإعلام على احترام مبدأ البراءة حتى تثبت الإدانة. فحرية الصحافة لا تعني حرية إصدار الأحكام دون وجه حق.