مجتمع

صوت الزنقة أعلى من صوت التربية: حين تلعن الألسن ما لم تزرعه البيوت

م-ص

قلة التربية في المجتمع ليست مجرد مظهر عابر يمكن تجاهله أو التسامح معه، بل هي تعبير صارخ عن تفكك داخلي عميق، وخلل متجذر في المنظومة التي من المفترض أن تُنتج مواطنًا سويًّا، يحترم نفسه قبل أن يحترم الآخرين. ما نشهده اليوم في الفضاءات العامة، من مقاهٍ وأسواق وأحياء، هو في كثير من الأحيان عرض حيّ لحالة من الانفلات القيمي والتربوي، حيث تحوّلت السلوكات الهمجية إلى أمرٍ مألوف، بل ومقبول أحيانًا، لدى شريحة من الناس، وكأننا فقدنا البوصلة، وفقدنا معها الحد الأدنى من الذوق والحياء.

أصبح من الشائع أن تدخل مقهى شعبيًا فترى أشخاصًا، غالبًا بالغين، يتحدثون بصوت مرتفع وكأنهم يخطبون في حشد من الجماهير. لا يهمهم أن هناك من يريد أن يقرأ، من يريد أن يرتاح، من يلتقي بصديق أو يناقش أمرًا خاصًا. لا، فالساحة لهم، والميكروفون في حنجرتهم، وهم يوزعون تفاصيل حياتهم ومشاكلهم وكلامهم الفارغ على الجميع دون إذن. إنهم لا يُحدثونك، بل يصرخون في وجه مجتمع بأكمله، يُطالبونه بأن يسمع، أن يتأقلم، أو أن يغادر المكان إن لم يعجبه الأمر. هذا النوع من البشر يعتبر وقاحته حرية، ويعتبر الإزعاج طبعًا رجوليًا، بينما الحقيقة أن ما نراه في سلوكهم ليس سوى قلة أدب موروثة، أو مكتسبة في بيئة لم تعرف يومًا قيمة الاحترام.

وفي الأسواق الشعبية، وفي الأزقة، وفي الأحياء التي تنبض بالحياة والتعب والكدح، يظهر صنف من الشبان وقد اتخذوا من الكلام الساقط زينة، ومن الشتائم والمصطلحات الجنسية سلاحًا للاستعراض. كأن فحولتهم لا تُقاس إلا بعدد المرات التي يلفظون فيها كلمات مقززة أمام الناس، أمام الأطفال، أمام الأمهات، أمام الغرباء. لا أحد يردعهم، لأن الردع لم يعد له مكان، ولأن التربية لم تعد تؤتي أكلها كما كانت. صار المجتمع وكأنه في حالة استسلام، أو على الأقل، حالة إنكار جماعي، حيث نمرّ بجانب هؤلاء ونحن نحاول فقط ألا نسمع، أو نتظاهر بأننا لم نفهم. لكن الحقيقة أننا فهمنا، وفهمنا جيدًا أننا صرنا غرباء في فضاءاتنا، رهائن لوقاحة لا تعرف حداً، وقلّة حياء لا تعرف خجلاً.

الصدمة الأكبر، التي لا يمكن المرور عليها مرور الكرام، هي ما نشهده من ظهور صنف جديد من الفتيات المنحرفات، اللواتي لم يكتفين بتقليد المنحرفين، بل نافسنهم في ميدانهم القذر. لم يعد الكلام الساقط حكرًا على الذكور المتهورين، بل صار يُنطق بأفواه ناعمة، بأصوات أنثوية، تخلّت عن الحياء وعن الحشمة، وتحوّلت إلى ما يشبه “نسخة متمردة” من الانحطاط الذكوري. قد تكون الظروف هي التي دفعت هذه الطينة من الفتيات الانغماس في هذا العالم الوقح، وربما غرّر بهن وهم الحرية، أو لعلهن وجدن في التلفظ بالسوقية نوعًا من فرض الذات في عالم لا يرحم، لكن النتيجة واحدة: حضور أنثوي يتماهى مع أقذر ما في الشارع من عبارات وسلوكات، وسط ضحك وتصفيق وتشجيع من أقرانهن.

هذه المظاهر ليست فقط نتيجة للفقر أو التهميش، رغم دورهما، لكنها نتيجة مباشرة لغياب قدوة، لبيوت فيها الآباء غائبون، والأمهات منهكات، والمدارس متخلفة، والمساجد تائهة، والإعلام مُفلس. قلة التربية هي نتيجة منظومة كاملة قررت أن تتخلى عن دورها، أو عجزت عن القيام به، فتركت جيلاً في العراء، بلا رادع، بلا توجيه، بلا عمق أخلاقي. وصار الشارع مدرسةً، والمقهى تربية، والهاتف أستاذًا، والسوشيال ميديا مرجعية.

ولأن لكل شيء ثمن، فإن ثمن قلة التربية لا يُدفع فقط بصوت مرتفع أو كلام ساقط، بل يُدفع بأمننا، وبسكينة حياتنا، وبشعورنا بالانتماء. يُدفع حين تخجل أن تصطحب ابنتك إلى السوق، أو تتردد في الجلوس بمقهى، أو تضطر لتغيير طريقك لأن مجموعة من المراهقين يحتلون الزقاق بأصواتهم وسلوكهم. يُدفع حين لا يعود للعيب مكان، ولا للحرج وجود، ويصير التطاول هو اللغة المشتركة.

قلة التربية ليست مجرد سلوك شخصي. إنها عدوى، تنتشر، وتتشبث، وتتغذى على صمتنا. وكلما تجاهلناها، كبرت، حتى تُصبح هي الأصل، ويُصبح المؤدب هو الغريب، ويُقال له: “راك معقد”. ومن هنا تبدأ النهاية، نهاية مجتمع لا يحترم نفسه، ولا يربي أبناءه، ولا يعترف بأن الفظاظة ليست حرية، وأن قلة الحياء ليست قوة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.