مجتمع

صيفٌ علّمني كيف أكبر: من المحمدية إلى أسفي

محمد صابر

في صيف 1979، كنت في السابعة عشرة من عمري، على مشارف الرجولة، أضع قدمًا في عالم الأحلام الطموحة وأخرى في عالم المراهقة، حيث لا تزال نظرتي مشبعة بتلك السذاجة التي تميز تلك المرحلة من العمر. لم يكن الصيف في مخيلتي مجرد عطلة للراحة أو الاستجمام على الشواطئ، بل كان بمثابة مغامرة جديدة، رحلة لاختبار الذات، وصناعة تجربة تجعلني أقف أمام الحياة كعابر طريق يملك إرادته الخاصة. لم أكن أعرف حينها أنني على وشك الانخراط في مغامرة ستظل راسخة في ذاكرتي، وكأنها حدثت البارحة، تتحدى الزمن وتخترق حدود الواقع.

الصدف في حياتنا لا تحتاج إلى تبرير أو مقدمة، فهي تأتي فجأة، تطرق أبوابنا حين لا نتوقعها. وصلتُ إلى أسفي، المدينة التي لا أعرفها، محملًا برغبة قوية في العمل والبحث عن فرص، لا أملك سوى رغبة جامحة في أن أحقق ذاتي، في أن أقول للعالم: أنا هنا. لم يكن لدي دليل سوى أحلامي، ولا رفيق سوى العزيمة. وفي تلك اللحظة، كان كل شيء في غاية البساطة والتحدي معًا.

في بحثي عن الفرص، وصلت إلى شركة فرنسية تعمل على مشروع ضخم: “ماروك فوسفور 2”. اسم الشركة كان بسيطًا، لا يحتاج إلى تعوّد أو شرح، “سنيفي”. لكن ذلك الاسم، رغم بساطته، كان يتنقل بين اللكنات المتعددة، من لسان العامل المغربي إلى التقني الفرنسي. أما أنا، فقد تعوّدت عليه سريعًا، كما تعوّدت على نطق كلمة “calorifugeage” التي أصبحت تخرج من فمي بطلاقة، وأعرف معناها بدقة: عزل الأنابيب الحرارية.

لم تكن الكلمة تخيفني، ولا تربكني. بل كنت أنطقها بثقة، كمن نحتها بلسانه واستوعبها بعقله. في تلك السن المبكرة، كنت حريصًا على أن أظهر بمظهر الشاب المتماسك وسط الكبار، لا مجرد مراهق جاء إلى أسفي لقضاء العطلة. كنت أرغب في أن أكون جزءًا من هذا العالم المهني، أن أكون ملمًّا بكل التفاصيل، لغةً ومفردات، وأن أثبت لنفسي وللآخرين أنني قادر على تحمل المسؤولية.

في عالم الورش الصناعية، لا مكان للمترددين. لا مجال للخطوات التي تخاف الوقوع، ولا شفقة على من يتلعثم في التعبير. كانت اللغة في هذا السياق أكثر من مجرد أداة للتواصل، كانت بطاقة هوية مهنية، وعنوانًا للاندماج. كنت مصممًا على أن أحمل هذه الهوية بكل قوتي، كما يحمل العامل خوذته، والمهندس ملفاته، والمدير مفاتيحه الثقيلة.

دخلت على المدير يوم جمعة. كان رجلًا فرنسيًا في الخمسين من عمره، بملامح جامدة، لكنها غير متعالية، وهيئة وقورة توحي بخبرة طويلة في الميدان. كان مكتبه الثانوي بسيطًا، خاليًا من مظاهر الفخامة، لكنه منظم بدقة تُشبه أسلوبه في الكلام: هادئ، مختصر، مباشر. لا مكان هنا للزخارف أو التفاهات، كل شيء في محله، كما في عقله.

نظر إليّ بنظرة سريعة، كما لو كان يقيس مدى جديتي من أول وهلة. كانت تلك النظرة كافية ليشعرني بأنني أمام رجل لا يسهب في الحديث، لكنه يستطيع أن يُخبرك بالكثير بكلمة واحدة. سألني عن اسمي، عمري، ثم فجأة سألني إن كنت أعرف ما هو “calorifugeage”. كأنما يريد اختبار لغتي ومهاراتي العملية في آن واحد.

ثم تابع بهدوء: “هل أنت مستعد أن تبدأ العمل يوم الاثنين؟”

أومأت بالإيجاب، وأنا أحاول أن أبدو واثقًا، رغم أن قلبي كان يخفق بسرعة، والمشاعر تتقافز داخلي كأنها أسئلة مفتوحة في الهواء. في تلك اللحظة، فهمت أن المدير الحقيقي لا يحتاج إلى رفع صوته أو استعراض سلطته. قراره واضح، نظرته ثاقبة، وزمنه ثمين. لم يكن بحاجة إلى كلمات كثيرة ليترك انطباعه. خرجت من هناك وأنا أُخفي توتري بشيء من الفخر، كان هذا أول اعتراف لي في هذا العالم الجديد، فقد تم قبولي. في ذلك المكتب، بين سؤالين وجملة واحدة، فُتح لي باب إلى عالم الكبار.

وصل يوم الاثنين، وجئتُ بدوري، لكنني تأخرت قليلاً. ما زلت أتعلم ترتيب مواعيدي كما يفعل الكبار. اعتمدت على النقل العمومي، والمصادفات لا ترحم أحيانًا. حارس البوابة، بصرامة الموظف الذي لا يهمه أنك جديد، طلب مني الانتظار إلى أن يصل المدير.

وصلت الساعة العاشرة والنصف، والسيارة الفرنسية توقفت أمام الباب. ترجل المدير بابتسامته المعهودة، معتذرًا عن تأخره كأن الأمر معكوس، وكأنني أنا من كنت أنتظره. دخلنا إلى مكتب متواضع، مجرد “بونغالو” عادي، فيه مكتبين. كان بعيدًا عن صور المكاتب الفخمة التي كنت أتخيلها. لم يكن هناك شيء يذكرك بمكانة أو رفاهية، كان المكتب صغيرًا، عمليًا، كل شيء فيه يؤدي وظيفة واضحة. وهناك، بدأت أول دروسي. كانت دروسًا عن العمل، وعن الناس، وعن الحياة… تلقيتها في محاسبة الإنتاج، حيث تعلّمت أن خلف كل رقم قصة، وخلف كل يوم خبرة جديدة.

كان المسؤول الفرنسي مشرفًا على رئاسة الورش. لم أكن أتقن الفرنسية جيدًا، لكنها لم تكن عقبة، بل كانت محفزًا لي. كان عليّ أن أصغي أكثر، أن أركز في كل كلمة، وأتعلم أكثر. في تلك اللحظات، أدركت أن التعلم لا يتوقف عند القاموس، بل في التفاعل مع الواقع، في فهم التفاصيل التي لا تأتي بالكلمات، بل بالأفعال.

في اليوم الثالث من العمل، وبعد ليالٍ من المبيت العشوائي في أماكن غير ثابتة، جاء رئيس الورش، صاحب الفكرة العملية، واقترح عليّ أن أعيش معه في الفيلا التي يقيم فيها في “المدينة الجديدة”. كانت هذه الفيلا تحتضن أسرته الصغيرة: زوجته، وابنته، وابنه. كانت غرفتي كبيرة، ولكنها محكومة بنظام صارم، بل تكاد تكون مستودعًا لجندي في معسكر، حيث يقرر قائد المعسكر حركة دخولك وخروجك. كان رئيس الورش يحرص على أن يقلني بسيارته ذهابًا وإيابًا، وكأنني جزء من دورة عمل مستمرة لا تنتهي، مع ضوابط حازمة.

وذات أحد، بينما كنت غارقًا في نوم كنت أنتظره بفارغ الصبر بعد أسبوع طويل من العمل، فوجئت بدق الباب فجأة. كان هو، جون بيير، الذي يوقظني وكأننا في مهمة عمل. ارتبكت للحظة، ولكن سرعان ما اكتشفت أنه ليس يومًا عاديًا. لم يكن يوم عمل، بل يوم نزهة مع العائلة. جلسنا معًا على مائدة الفطور العائلية، ثم خرجنا إلى ملعب صغير وبعيد، حيث لعبنا كرة القدم مع الأطفال، بينما بقيت الزوجة في البيت تنظم طقوس نهاية الأسبوع. كانت لحظة استثنائية، لكنها جعلتني أفكر في أمر لم أكن قد درسته من قبل: الاستقلالية.

حياة المعسكر تلك لم تكن لي. بعد أن تسلمت تسبيقًا ماليًا محترمًا، التقيت بأحد أطر “المجمع الشريف للفوسفاط”، شاب بيضاوي أعزب يعمل في نفس الموقع. اقترح عليّ السكن المشترك، فاستأجرنا معًا طابقًا أرضيًا في حي “جنان المستاري”. كان المنزل حديثًا، يعود لقاضٍ من قضاة المدينة. كان إيجار المنزل 400 درهم شهريًا، مبلغ لم نكن مشمولين بالإعفاء الملكي منه، لأن أجورنا كانت تتجاوز السقف المحدد بـ 1500 درهم.

لكن الأمر لم يكن مجرد مفتاح صغير وُضع في جيبي صباحًا. كان ذلك المفتاح بمثابة بداية تحول داخلي أكبر. كنت قد خرجت لتوي من نمط حياة صارم ونظام عسكري دقيق: أستيقظ مع ربّ البيت، أركب معه، أعود معه، أتناول الفطور في توقيت ثابت، وأتسلل إلى غرفتي كما لو كنت جنديًا خارج الثكنة. لم يكن هذا النظام سيئًا، بل كان بمثابة تأهيل غير معلن لنظام جديد كنت على وشك اكتشافه.

كان ذلك اليوم، عندما تسلّمت مفتاحي الخاص، بداية لحياة جديدة. لم يكن مجرد مفتاح، بل كان مفتاحًا لعالم جديد بدأت أكتشفه شيئًا فشيئًا. كان كأنني قد حصلت على قطعة من هذا العالم الذي بدأ يظهر لي وكأنه موطني.

في البداية، كانت الورشة مكانًا موحشًا، مجرد أصوات وصخب، ولكنها مع مرور الأيام تحوّلت إلى ركن مألوف. أصبحت جزءًا لا يتجزأ من روتيني اليومي، وكأنني لا أستطيع العيش بدونه.

مفتاحي الخاص كان يُفتح به باب الشقة المشتركة، تلك الشقة التي صارت منزلي ومنزل زميلي في السكن. كانت الساعات التي أقضيها بين جدرانها قصيرة، لكنها كانت مليئة بمشاعر جديدة. طعم الراحة التي تسبق بداية يوم طويل، طعم آخر للعيش.

وفي كل صباح، كان “أحمد”، السائق الذي خصص لي المقعد الأمامي في “الميني شاحنة”، يسرع بالوصول إلى الورشة أكثر من المعتاد. لكنه كان يعرف أنني لا أطلب منه التسرع. كان يلتقط الإشارة، ويشغل الراديو على أغاني قديمة، ويترك لي المساحة للتفكير.

في تلك السيارة الصغيرة، التي كانت تأخذنا إلى عالمنا اليومي، شعرت لأول مرة أنني لم أعد ذلك الشاب اليافع الضائع في متاهات مدينة غريبة. صرتُ جزءًا من هذا العالم. أصبحت من أهل الورش، من رجاله، ممن يُنتظر حضورهم، ويُحسب لغيابهم حساب.

في البداية، كان كل ذلك مجرد تغيّر ملموس في حياتي اليومية، لكن مع مرور الوقت، اكتشفت أنني قد حصلت على شيء أكبر من ذلك. لم أعد مجرد فتى يبتعد عن مدينته ليكتشف عالمًا جديدًا، بل أصبحت جزءًا حقيقيًا من هذا العالم. محاطًا بمفاتيح ومسؤوليات صغيرة، لكنها معنوية، تؤكد لي كل يوم أنني من هذه الأرض، وأنني جزء من هذه الآلة التي تدور بلا توقف.

كان أحمد، بسمته الهادئة وشاربه الممشط، يطل عليّ كل صباح من خلف المقود بابتسامة خفيفة فيها احترام غير مصطنع. يفتح الباب، يشير بيده: “تفضل سيّدي”، وأجد نفسي أمام المستخدمين الآخرين، الذين كانوا يتزاحمون في الخلف، بينما أنا أجلس أمامهم، وكأن المقعد الأمامي شهادة تقدير غير مكتوبة.

في لحظة، شعرت أنني انتقلت من مجرد مراهق طموح إلى شخص له مكانه، ورائحة الثقة بدأت تعبق في خطواتي الصباحية، تلك التي كانت تحملني من “جنان المستاري” نحو أوراش الفوسفاط، وبينهما طريق من الحصى والغبار، لكنه كان ممهدًا داخليًا بنشوة الاكتشاف، ولذة الاعتراف بوجودي.

كانت الحرية تنمو داخلي، وتكبر معها علاقتي بالمحيطين بي. وجدت نفسي أجالس الأطر وكبار السن وأنا في عمر من يلاحق الحياة بأقدام صغيرة. وذات مساء، التقيت أحد أبناء المحمدية، كان قد أصبح رئيس شرطة المرور بأسفي. سألني، بفضوله المهني، عن راتبي، فاندهش حين أخبرته. قال لي مازحًا: “حتى رئيس الأمن ما كيضربش قدك!” ضحكت وقلت له إن هذه وظيفة مؤقتة، وسأعود عند نهاية الصيف.

كنت أقرأ في أوقات الفراغ، وكنت أتعلم كيف يكون الإنسان حاضرًا في نقاشات الكبار، حتى إن لم يكن منهم سنًّا أو تجربة. أهل أسفي كانوا يحرصون على المظهر، حتى المتقاعد لا يخرج من بيته إلا وقميصه مكوي، ورائحته تفوح بالنظافة. أما الشارع، فكان مسرحًا للفوضى الجميلة، خاصة شارع الرباط الذي كنت أحب ضجيجه وتجارته العشوائية و”الهمهمات” الصباحية بين الباعة.

في المكتب الجديد، حيث انتقلت بعد شهر من بداية العمل، زارني شاب من أبناء آسفي، طلب مساعدتي في العثور على فرصة شغل. لم يكن ذلك ضمن مهامي، لكنني تحدثت عنه مع رئيس الورش، فتم تشغيله بالفعل. لم ينسَ لي هذا المعروف، ودعاني إلى بيت عائلته، حيث تذوقت لأول مرة في حياتي طبق السمك بالكسكس، وجبة بقيت في ذاكرتي، ليس فقط بسبب نكهتها الفريدة، بل لما رافقها من كرم وعفوية وتقدير. زارني مرات لاحقة، مجددًا الدعوة، لكنني كنت أعتذر دائمًا، ليس تجاهلًا له، وإنما حفاظًا على تلك العزلة الصامتة التي كنت أتمسك بها وسط صخب التجربة.

كان سكان آسفي، مثلهم مثل باقي المغاربة، مزيجًا من البساطة والطيبة، وأحيانًا الحذر والمناورة. عرفت بعضهم واحتفظت بتلك المعرفة كشيء ثمين. رغم قصر المدة التي قضيتها هناك، إلا أن وقعها في داخلي كان عميقًا. ومع مرور الأيام، انتقلت إلى شقة قرب محطة القطار، وبدأت أخرج أكثر، وأسهر، وأستمع إلى الأغاني الشعبية التي لم تكن من ذوقي، إذ كنت أميل إلى موسيقى هادئة، إلى “شانسونات” فرنسية تبعث في نفسي نوعًا من الأناقة الممزوجة بالحزن.

ثم جاء ذلك اليوم الذي اقترب فيه الوداع. أخبرت “ألان غيناف”، مدير الشركة، بأنني سأعود إلى المحمدية. كان وداعًا صادقًا، اختلط فيه الشكر بشيء من الأسى.

كان وداعًا حقيقيًا، يختلط فيه الامتنان بشيء من الحزن الدافئ، كما لو كان بين أب وابنه. ابتسم لي المدير تلك الابتسامة العميقة التي تقول أكثر مما تنطق، بينما كانت كلماته قليلة، لكنها مشبعة بالمعاني. لم يكن الوداع رسميًا، بل محمولًا بإحساس خفي بالاحترام والتقدير لما أنجزناه معًا. شعرت كأن نظرته تهمس لي: “لقد كنت جزءًا من هذه الحكاية، ولن تُنسى”.

وأنا أستعد للرحيل، لمحت السائق أحمد واقفًا على مسافة، يراقب الموقف بصمت. لم يقترب، لكن عينيه قالتا الكثير. كانت نظرته تلك تقول إنه يفهم، ربما لأنه كان شاهدًا على التحول الذي عشته، وربما لأنه شعر أنني الآن أخطو خطوة جديدة في مساري. هو، الذي خصني دائمًا بالمقعد الأمامي في “الميني شاحنة”، كان جزءًا من الرحلة، بصمته واحترامه وهدوئه.

حين انتهى حديثي مع المدير، لم أعد الشاب الذي جاء من بعيد بحثًا عن فرصة. كنت الآن شخصًا نحت تجربته في ذاكرة المكان. لم يكن الوداع نهاية، بل بداية جديدة، فصل آخر في قصة التكوين.

عدت إلى المحمدية، لكنني لم أعد كما كنت. كنت أحمل في حقيبتي عمرًا إضافيًا، نضجًا جاء من الاحتكاك لا من السنين، من التفاصيل الصغيرة التي تصنع الفرق، من حوارات العابرين، وتقدير من لا ينتظر منك شيئًا. تعلمت كيف أستمع أكثر مما أتكلم، كيف أفرض نفسي بهدوء وثقة، وكيف أقرأ الناس بنظرة.

أسفي، صيف 1979، لم تكن سوى محطة… لكنها كانت المحطة التي صنعت رجلًا.

غادرت أسفي، لكن شيئًا مني بقي هناك: في ضحكة أحمد خلف المقود، في طاولة السمك والكسكس، في رائحة الغبار الممتزجة بأغاني الراديو، وفي ذلك الوداع الصامت من ألان… أما أنا، فقد عدت إلى المحمدية، أكثر هدوءًا، وأقل خوفًا، وفي جيبي مفتاح، وفي قلبي مدينة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.