ضحايا بلا تعويض وممتلكات مجمدة بلا رحمة… هل هذه هي العدالة التي يريدها المشرّع المغربي؟

ضربة قلم
يبدو أن التقرير الأخير للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، الذي أعقب التعيين الجديد لعبد القادر عمارة، قد اتخذ نبرة تحليلية دقيقة تسلط الضوء على مكامن الضعف في مشروع قانون المسطرة الجنائية، لا سيما في ما يخص دعم وتعويض ضحايا الجرائم. ورغم أن النص القانوني يعترف صراحة بضرورة العناية بالضحايا كركيزة من ركائز العدالة الجنائية، فإن التدابير المقترحة تفتقر إلى العمق والنجاعة الكافية لتحقيق هذا الهدف النبيل، الأمر الذي يطرح إشكاليات فعلية حول مدى التزام المشروع بمبادئ العدالة الاجتماعية والإنصاف.
فمن الناحية العملية، تُبدي الآليات التي أُحدثت، مثل خلايا التكفل بالنساء والأطفال ومكاتب المساعدة الاجتماعية، محدودية واضحة سواء على مستوى الفئات المستهدفة أو الإمكانات المتاحة. فهي تركز على فئتين فقط من الضحايا، دون اعتبار للفئات الأخرى التي قد تتعرض لانتهاكات جسيمة ولا تجد طريقها إلى آليات الدعم. ثم إن الطاقم البشري والموارد المادية المتوفرة لتنفيذ مهام هذه المكاتب تبقى محدودة، ما يفرغ هذه المبادرات من محتواها الفعلي ويحولها إلى مجرد عناوين براقة دون أثر ملموس على أرض الواقع. ولذلك كان اقتراح المجلس بالاستعانة بجمعيات المجتمع المدني المتخصصة بمثابة محاولة جريئة لسد هذا الفراغ، ولكنها تظل مشروطة بوجود إطار قانوني ومؤسساتي منظم يحول دون استغلال هذا الانفتاح بشكل عشوائي أو انتهازي.
أما في ما يخص تعويض الضحايا، فإن المشروع يبدو وكأنه يراوح مكانه داخل الإطار التقليدي للدعوى المدنية، دون أن يواكب ما أصبح معمولًا به في عدد من الدول التي تفهم التعويض باعتباره أحد أشكال جبر الضرر الواجبة من طرف الدولة، وليس فقط حقًا مشروطًا بحكم قضائي قد يستغرق سنوات دون أن يفضي إلى نتائج عملية. ففي فرنسا أو كندا أو الولايات المتحدة، توجد صناديق خاصة تُمكن الضحايا من الاستفادة من مساعدات طبية ونفسية ومالية، حتى في غياب حكم قضائي نهائي. هذا التوجه يعكس فلسفة أكثر إنسانية وشمولية في التعامل مع آثار الجريمة، حيث يتم الفصل بين منطق الإنصاف ومنطق العقوبة، وهو ما يفتقر إليه المشروع الحالي الذي لم يتطرق لإحداث مثل هذه الصناديق أو آليات مستقلة ومرنة للتعويض.
وفي منحى موازٍ، أبدى المجلس قلقًا واضحًا بشأن التدابير المتعلقة بعقل الأملاك في سياق الجرائم العقارية، مشيرًا إلى أنها قد تتسبب في أضرار جانبية جسيمة تمس أنشطة اقتصادية قائمة، وتؤثر على حياة أُسر وأفراد لا علاقة لهم بالجريمة. فالقانون الحالي لا يميز في آثاره بين الفاعلين الحقيقيين وبين المحيطين بهم، ما قد يؤدي إلى حرمان أسر كاملة من مصادر رزقها، أو إلى شلل وحدات إنتاجية تشغل عشرات العمال، فقط لأن ملكيتها ارتبطت بمتهم في طور التحقيق أو المحاكمة. إن هذا التوجه، وإن كان يفهم في سياق محاربة التلاعب بالملكيات العقارية، إلا أنه يتجاهل مبدأ التناسب الذي يُعد حجر الزاوية في القوانين الحديثة.
المجلس في هذا الصدد لم يكتف بالتشخيص، بل قدم توصية تحمل بعدًا إستراتيجيًا بالغ الأهمية: ضرورة إيجاد صيغ قانونية تتيح استمرار النشاط الاقتصادي تحت إشراف شخص معين أو هيئة مسؤولة، تضمن الحفاظ على مناصب الشغل واستمرارية العمل، ريثما تتضح نتائج المتابعة القضائية. إنها مقاربة تجمع بين الحزم في مواجهة الجرائم، والحذر في عدم تحويل الإجراءات القضائية إلى أدوات للإضرار بالأبرياء أو لزعزعة الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. ويبدو أن التجارب المقارنة كانت حاضرة في هذا السياق، حيث أن دولًا كالمملكة المتحدة أو كندا تبنت تدابير تضمن استمرار الأنشطة الاقتصادية المشروعة رغم مساطر الحجز أو العقل، من خلال تفعيل آليات قانونية تراعي مبادئ النجاعة والعدالة والتوازن بين المصالح.
في الخلاصة، يضع هذا التقرير الأصبع على مكامن الخلل في مشروع قانون طموح، لكنه لم يُحط بعد بكافة الجوانب العملية والإنسانية المرتبطة بتطبيقه. وهو يفتح الباب أمام نقاش عمومي عميق حول نمط العدالة الذي يريد المغرب ترسيخه، هل هو عدالة شكلية تكتفي بالنصوص؟ أم عدالة شاملة تنفذ إلى الواقع وتعمل على معالجة الجراح وليس فقط توثيقها؟