طغيان الشرطي: درس في الأخلاق… ولكن لمن؟

ضربة قلم
لا ندري إن كان رجال الأمن، أثناء فترة التكوين، يدرسون مواد في التربية الوطنية والأخلاق المهنية، أم أن التركيز ينصب فقط على التدريبات البدنية، القوانين الزجرية، وفنون السيطرة على الميدان. لكننا متأكدون من أن بعضهم -والحمد لله ليس الكل- بحاجة إلى دروس إضافية مكثفة في الإنسانية قبل أن يكونوا ممثلين للسلطة في الشارع.
الفيديو المتسرب، الذي انتشر كالنار في الهشيم على منصات التواصل الاجتماعي، ليس مجرد مشهد عابر يمكن تناسيه بعد مرور موجة الغضب الأولى، بل هو مرآة تعكس حالة من التباعد الأخلاقي بين السلطة والمواطن. المشهد باختصار: رجل شرطة مرور، دراجة ثلاثية العجلات، جرار (ديبناج) متأهب لسحب دراجة مواطن مغلوب على أمره، وهذا الأخير لا يجد أمامه سوى التوسل والتضرع، بل حتى تقبيل يد الشرطي ورجله في محاولة يائسة لإنقاذ دراجته من المصير المحتوم.
للوهلة الأولى، يبدو الموقف وكأنه مقتطع من مشهد سينمائي عبثي: شرطي بزي رسمي، مكلف بتطبيق القانون، يصرخ بكلمات ساقطة وسوقية في وجه مواطن مسكين، بينما هذا الأخير يجسد دور المستسلم الذي يقف أمام آلة القمع صاغراً، مكسوراً، متوسلاً. وما يزيد الطين بلة هو أن الشرطي لم يكتفِ برفض توسلات الرجل، بل استعمل ألفاظاً لا يمكن نشرها حتى في الأفلام المصنفة للكبار فقط!
عندما يصبح المواطن الحلقة الأضعف
قد يقال لنا إن رجل الأمن يطبق القانون، وأن الدراجة المخالفة تستوجب الرفع، وأنه ليس من حق المواطن الاعتراض، وكل هذا قد يكون صحيحاً من الناحية القانونية. لكن دعونا نضع القانون جانباً للحظة، ونتساءل عن العنصر الإنساني في القصة. منذ متى أصبحنا نعيش في مجتمع يحتاج فيه المواطن إلى تقبيل الأيدي والأرجل ليستعيد حقه أو يدفع عنه الضرر؟ وهل رجل الأمن، وهو ممثل للدولة، يحتاج إلى استعمال عبارات منحطة وسوقية فقط لأنه يحمل الصافرة والزي الرسمي؟
القوة لا تعني التسلط، والمهنة لا تبرر الإهانة، والزي الرسمي لا يمنح صاحبه بطاقة مفتوحة للتحدث مع الناس وكأنهم عبيد في عصر الإقطاع. رجل الأمن في أي دولة محترمة ليس جلاداً، بل هو موظف يؤدي مهمة اجتماعية قبل أن تكون أمنية. وإذا كان هناك مواطن مخالف، فهناك طرق قانونية وأخلاقية للتعامل معه دون الحاجة إلى الإذلال والاستقواء بالسلطة.
عهد السخرية يعود من جديد
مشهد المواطن وهو يقبل يد ورجل الشرطي أعادنا رغماً عنا إلى مشاهد تاريخية قديمة، كنا نظن أنها انقرضت مع نهاية عصور الاستبداد البائدة. هذه الصور لطالما كانت مادة خصبة للسخرية السوداء، إذ تحيلنا على ذلك المشهد الكاريكاتوري حيث يتوسل الفقير للغني، أو يستجدي الضعيف القوي، ولكن الفرق هنا أن الأمر ليس مشهداً كوميدياً في فيلم ساخر، بل هو واقع مغربي حي، موثق بالصوت والصورة، شاهده الملايين في دقائق قليلة.
كم مرة قلنا إن السلطة يجب أن تكون في خدمة المواطن، وليس العكس؟ وكم مرة سمعنا عن خطب وشعارات تدعو إلى تقريب الإدارة من المواطن، وتعزيز ثقافة حقوق الإنسان في العمل الأمني؟ لكن الواقع دائماً يثبت أن المسافة بين القول والفعل شاسعة مثل المسافة بين السماء والأرض.
عن الأخلاق… والانتقائية في الغضب
المفارقة العجيبة أن البعض، بعد انتشار الفيديو، انقسم إلى فئتين:
- فئة عريضة تندد بتصرف الشرطي، وتعتبره نموذجاً لسوء استعمال السلطة.
- فئة تهاجم المواطن، معتبرة أنه يستحق الإهانة لأنه كان من المفترض أن يحترم القانون حتى لا يضع نفسه في هذا الموقف.
لكن السؤال الذي نطرحه على الفئة الثانية هو: هل تطبيق القانون يبرر الإهانة؟ هل المخالفة تبرر الشتائم؟ لو كان هذا المواطن ابن مسؤول، هل كان الشرطي سيتحدث معه بنفس الطريقة؟ أم أن أخلاق بعض رجال الأمن تتغير حسب هوية المخالف؟
العدالة ليست في تطبيق القانون فقط، بل في طريقة تطبيقه. المواطن الذي ارتكب مخالفة مرورية يجب أن يخضع للإجراء القانوني المناسب، لكن لا شيء يبرر إذلاله. المشكل هنا ليس في سحب الدراجة، بل في مشهد الإهانة والسلطة المطلقة التي لا تجد من يردعها.
درس في الأخلاق… ولكن لمن؟
الطريف أن بعض المعلقين على الفيديو قالوا إن المشهد يقدم “درساً في الأخلاق”، لكن السؤال هو: لمن؟
- هل الدرس موجه للمواطن، حتى يعرف أن عليه الرضوخ دائماً لمن يملك السلطة؟
- أم موجه لرجل الأمن، ليتعلم أن الألفاظ السوقية ليست أداة من أدوات القانون؟
- أم موجه لنا جميعاً، لنفهم أن الإهانة أصبحت ممارسة عادية لا تستحق حتى الاستغراب؟
في كل الأحوال، يبدو أننا أمام واقع يحتاج إلى مراجعة جذرية. ليس فقط في سلوك بعض رجال الأمن، بل في منظومة القيم التي تحكم علاقة الدولة بالمواطن. طالما أن السلطة تُمارس بعقلية التفوق وليس بعقلية الخدمة، ستبقى مثل هذه المشاهد تتكرر، وسيظل المواطن الحلقة الأضعف في المعادلة.
لكن من يدري؟ ربما في يوم من الأيام، نجد أنفسنا ندرس هذا المشهد في المناهج التعليمية كجزء من تاريخ المغرب الحديث، تحت عنوان: “كيف كنا نعيش في زمن التوسل للسلطة؟”