مجتمع

عقبة الحاج الميلودي… حين كانت المحمدية تُقسم بـ”كلمة شريف”!

ضربة قلم

آهٍ من تلك الصورة، تلك التي تحبس الزمن في إطار باهت وتعيد إلى الواجهة ملامح زمن غابر لم يعد يُرى إلا من خلف ضباب الحنين. هناك، يقف الحاج الميلودي، شامخًا كباقي كبار الزمن الجميل، وإلى جانبه أجنبي، لا نعلم من يكون بالضبط، لكنه بالتأكيد لم يكن ليرفض التقاط صورة تذكارية مع “مول الأرض” و”سيد العقار”، أحد أعمدة فضالة أيام كانت المدينة تعرف أهلها بالاسم والهيبة، لا بالرقم الوطني ورقم الملف العقاري.

الحاج الميلودي لم يكن مجرد مالك أراضٍ، بل كان رمزًا لمرحلة كانت فيها المدينة لا تزال تتنفس رائحة التراب غير الملوث بالإسمنت، وتتفاخر بكرومها وحقولها قبل أن تلتهمها تجزئات الفيلات ومركبات الإقامات التي تفتقد لكل إقامة روحية مع المكان. كان يملك الأراضي، لكن الأهم من ذلك أنه كان يملك الاحترام، ذاك النوع من الوقار الذي لا يُشترى ولا يُباع ولا يُفوض إلى سمسار مقاهي.

ومن منا لا يتذكر “عقبة الحاج الميلودي”، تلك العقبة التي فصلت لسنوات بين عالمين: عالم زنقة بغداد، بكل ما فيها من مزيج بشري نابض، وزنقة سبتة حيث تمر الريح ولا تمر الحكاية إلا محمولة على لسان أحد القدماء؟ كانت العقبة نقطة عبور، نعم، لكن أيضًا كانت خطًا زمنيًا يذكرك بأنك دخلت فضاءً له قصة، وأنك تغادر حيزًا له عبقٌ لا يعرفه من هبط بالمظلة بعد الثمانينات.

واليوم، صارت العقبة جزءًا من أرشيف شفهي، تحولت إلى مجرد اسم في الخرائط القديمة، بعدما هُدمت الرمزية وبُنيت مكانها الفيلات المحصنة، تلك التي لا تعرف الحاج الميلودي، ولا تدري أنه في زمنه كانت الكلمة عقدًا والابتسامة ضمانة. أين نحن الآن من ذلك الزمن؟ حيث كان الكراج يُفتح بالنية، وكان الممر لا يُغلق بسياج حديدي بل يُحمى بالود والاحترام.

واليوم، لم يتبقّ من تلك الأراضي الفلاحية الشاسعة سوى “العقبة” التي تحولت بدورها إلى مجرد ممر في ذاكرة من عاشوا الزمن الجميل. صارت العقبة جزءًا من أرشيف شفهي، اسمًا باهتًا في خرائط لم تعد تُروى، بعدما أُزيحت الرمزية وشُيّدت فوقها فيلات محصنة بأسوار شبه عالية. فيلات لا تعرف الحاج الميلودي، ولا تدري أنه في زمنه، كانت الكلمة عقدًا، والابتسامة ضمانة، والممرات تُصان بالود لا بالحديد.

أين نحن الآن من زمنٍ كان فيه الكراج يُفتح بالنية الحسنة، وكانت العقبة تُحرس بنظرة الجار، لا بكاميرات المراقبة؟

إن نوستالجيا الحاج الميلودي ليست مجرد حنين لعقبة أو صورة. إنها حنين لذاكرة مدينة كانت تُدار بالأخلاق لا بالصفقات، وتُقسم أراضيها بروح المسؤولية لا بأطماع الورثة الجدد. مدينة كانت فيها العلاقات المجتمعية أصلًا ثابتًا لا فرعًا هشًّا يُقتلع بأول مشروع استثماري يُغري المجلس البلدي.

الحاج الميلودي رحل، لكن العقبة لا تزال هناك، شاهدة على زمن انتهى دون أن يُودَّع كما يليق بكبار الرجال. وهل من الوفاء إلا أن نكتب عنه ونتذكره، لا بصفته مالكًا ولا صاحب نفوذ، بل رمزًا لذاك الزمن الذي نتحسر عليه كلما مررنا بالقرب من نفس المكان.

رحم الله الحاج الميلودي، ورحم تلك المدينة التي كانت تنبت رجالًا، لا مجرد عمارات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.