عندما تتحول الصحافة إلى حارس أمن لدى أخنوش

ضربة قلم
في المغرب، لم يعد القارئ البسيط يملك ترف تصديق العناوين الصحفية، تلك التي تبدو أحيانًا كأغلفة مصقولة لأكياس هواء، ممتلئة بالرطانة والتفاهة المُقننة، ومختومة بختم “هذا ما يريده المخزن”. لم نعد نتحدث هنا عن صحافة حرة، بل عن أوركسترا مدفوعة الأجر، تعزف على نغمة واحدة: مديح الزعيم، وتبرير العشوائية، وتلميع المخزن. و”عزيزنا” عزيز، نعم، هو عزيزٌ في الصحف حد التقديس، وكأن انتقاد رجل يملك رئاسة الحكومة، وإمبراطورية اقتصادية، وجهازاً إعلامياً غير مرئي (لكنه يُرى في كل سطر)، هو ضرب من ضروب الكفر بالوطن.
في هذا السياق، يمكننا أن نتحدث بسخرية جارحة عن تلك الأوراق التي تُسمّى صحفاً، وهي لا تختلف كثيراً عن ورق التواليت إلا في سعرها المرتفع ورطوبتها المتأخرة. صحف تُطبع فقط لتُكمل أعداد التوزيع الورقي الذي يُطلب في ملف طلب الدعم العمومي، فتُحمل إلى المقاهي حيث لا يقرؤها أحد، أو تُرمى في مكاتب الإدارات العمومية حيث تُستخدم لحماية مكاتب المديرين من بقع القهوة. هذا الورق المطبوع الذي يتفاخر أصحابه بأنه “جريدة يومية”، لا يجرؤ أن يكتب “أخنوش” دون أن يضع بعده “السيد رئيس الحكومة” ثم يشرع في تقديم باقة من الأوصاف: “المجتهد”، “المتفاني”، “رجل المرحلة”، “المستثمر الناجح”، إلى آخر تلك القذائف الناعمة من التملق الذي يجعل حتى المتابعين للشأن العام يصابون بالغثيان المزمن.
التمويل العمومي؟ لا تقلق، موجود. الإشهار؟ حاضر بقوة. شراكات مشبوهة لا تُدوَّن على الورق؟ نعم، وهذا هو بيت القصيد. هناك خيط غير مرئي بين بعض المسؤولين في الإعلام وبين بعض جيوب السلطة التي لا تكتب ولا تتحدث، لكنها توحي، وتدفع، وتُموّل، وتُقصي من لا ينصاع. الرقابة الذاتية أصبحت جزءاً من الحمض النووي لبعض الصحفيين، حتى أن الواحد منهم صار يعرف حدود الكلام وحدود الصمت وحدود النكتة وحدود التنفس. يمكنه أن يسخر من انقطاع الماء في زاكورة، لكن لا تذكر أبداً أن أحداً يملك شركة توزيع الماء هناك. يمكنه أن ينتقد ضعف الأجور، كما يتحكم رئيس الحكومة في أسعار المحروقات، ولا يَسلم أي مسؤول في صندوق المقاصة يجرؤ على مساءلة الرجل الذي يجمع بين السلطة والتجارة.
لقد نجح المخزن في تحويل بعض الصحف إلى نسخة مصغرة من القناة الأولى: الرؤية واحدة، والنبرة واحدة، والمستهدفون أنفسهم. الهامش الموجود في بعض الجرائد ليس إلا مشهداً مسرحياً يرضي من تبقى من القراء الحالمين بحرية التعبير، أما القصة الحقيقية فهي أن المال يتحكم في كل شيء: من أول فاصلة في العنوان، حتى آخر نقطة في تعليق ساخر يُرسل إلى الرقيب الداخلي قبل أن يُرسل إلى الطباعة.
وأمام هذه “الكوميديا الإعلامية”، يجلس المواطن المغربي حائراً، يتصفح جريدة لا تجرؤ على مساءلة رئيس الحكومة، ولا تقترب من ملفات الفساد، ولا تتحدث عن الاختلالات البنيوية التي يعرفها كل طفل قبل أن يصل إلى سن التصويت. المواطن لا يحتاج إلى تحليل معمق ليفهم أن الإعلام صار مطية للسلطة، وأنه حين يُكتب “إصلاحات عميقة”، يُقصد بها “التستر العميق”. وحين يُقال “استراتيجية جديدة”، يعني ذلك غالباً أن شيئاً لن يتغير سوى ديكور الأوهام.
وفي ظل هذا الواقع، فإن الصحافي الحقيقي، ذلك الذي لا يكتب حسب “الموديل السياسي”، يُقصى، تجفف منابعه، ويُتهم بأنه سلبي، مأجور، أو “يحمل أجندة خارجية”. أما من رضي بلعب دور “البلطجي اللغوي”، فيُكافأ بظهور متكرر على شاشات التطبيل، وحضور في لقاءات مغلقة، وأحيانًا، بعمود يومي يشبه دعاءً جماعياً لدوام الاستقرار المربوط حصرياً ببقاء “أخنوش” مرتاح البال.
إن الصحافة التي لا تقدر أن تسأل رئيس الحكومة عن غلاء المعيشة ولا عن التراجع في أسعار البنزين مع انخفاض اسعار النفط عالميا، ولا عن تداخل المصالح، ولا عن غيابه المزمن عن جلسات البرلمان، ليست صحافة. إنها ببساطة مكتب للعلاقات العامة، أو بلاغات موسمية بحبر ملون. لا فرق بينها وبين اللوحات الإشهارية التي تُبشر بمشاريع خرافية: “2020.. المغرب الأخضر”، “2025.. طريق التنمية”، “2030.. ميترو كازا”. شعارات تُكتب لتُنسى، وتُطبع لتُموَّل، وتُروَّج لتُخدر العقول.
فهل نحتاج فعلاً إلى كل هذا الحبر من أجل قول لا شيء؟ الجواب عند أول عدد من تلك الجرائد، التي لا تقرأ، لكنها تصل في الوقت المحدد إلى قسم الأرشيف بوزارة الاتصال.