عندما تصبح النزاهة تهمة: انطباع في مكتب وكيل الملك!

محمد صابر
من بين الطرائف المضحكة والمبكية في نفس الوقت التي لا تفارق ذاكرتنا، يحكي لنا عميد شرطة متقاعد قصة واقعية عاشها حين كان ضابط شرطة يمارس عمله في الشرطة القضائية. يقول:
كنت أجري استماعًا في محضر لطرفين في نزاع، حين تقدم إليَّ أحدهما وعرض عليَّ مالًا. رفضت استلامه، خاصة وأن هيئة الرجل وملابسه كانت تنطق بحاجته لمن يعينه لا من يأخذ منه. ألحَّ عليَّ، لكنني أصررت على الرفض. ربما كان ذلك في نظر البعض مثالية زائدة، لكني كنت أرى أنه لا يمكن لمن يسهر على تطبيق القانون أن يكون أول من يعبث به.
في اليوم الموالي، تفاجأت بمكالمة هاتفية من وكيل الملك يطلب مني الحضور إلى مكتبه فورًا. استجبت على الفور، وحين دخلت إليه، وجدته يجلس خلف مكتبه الفخم، ينظر إليَّ بنظرة يصعب تفسيرها. ظننت في بادئ الأمر أنني أخطأت في إجراء قانوني أو أن هناك تطورًا في قضية كنت أحقق فيها، لكن المفاجأة جاءت من حيث لا أحتسب.
قال لي بلهجة ساخرة: “لماذا رفضت تسلم هدية المواطن؟ لقد جاء يشتكي ويقول إنك تسلمت من الطرف الآخر في النزاع! هيا، تسلم منه المال!”
لحظة صمت غريبة سادت المكان، كنت أنظر إليه منتظرًا أن يُتم جملته بشيء منطقي، لكن لا، لقد كان جادًا. في تلك اللحظة، أدركت أن رفضي للرشوة لم يكن مجرد تصرف نزيه، بل كان خطأً فادحًا في معادلة لم أكن أعرف قواعدها بعد. لقد كنت خارج المنظومة التي يعرف الجميع كيف تسير، وها أنا ذا أجد نفسي موضع اتهام لأنني ببساطة لم أقبل المال!
بقدر ما كان المشهد سرياليًا، بقدر ما كان يفضح واقعًا بائسًا، حيث لا يُفترض بك أن تكون نزيهًا، بل الأهم أن تعرف كيف تلعب اللعبة. نزاهتك قد تكون دليل إدانة ضدك، وقد تتحول بسهولة من شاهد على العدل إلى متهم بالتواطؤ، لمجرد أنك لم “تفهم” كيف تدار الأمور.
خرجت من المكتب وأنا أجر خلفي ذيول الدهشة، أفكر في معنى النزاهة في سياق كهذا. هل هي فضيلة، أم غباء؟ هل هي موقف، أم مجرد مثالية لا مكان لها في الواقع؟ في النهاية، لم يكن الأمر يتعلق بي وحدي، بل كان انعكاسًا لمجتمع بأسره، حيث تتحول القيم إلى مجرد شعارات تُرفع، بينما الممارسات تسير في اتجاه آخر تمامًا.
حين تضع رأسك على الوسادة ليلاً، قد تظن أنك فعلت الصواب، لكن في عالم كهذا، هل هناك صواب وخطأ، أم مجرد درجات مختلفة من التأقلم مع الفساد؟
من خلال هذه الحكاية، نلمس تأثير الضغوط الاجتماعية والمهنية على الفرد في مجتمعات يسود فيها الفساد. حيث تصبح النزاهة، التي من المفترض أن تكون صفة محمودة، بمثابة تهديد للنظام القائم. فالمتوقع أن يكون الشخص “جزءًا من المنظومة” التي تدير الأمور على ضوء مبدأ “المصلحة المشتركة”، وهي مفارقة تجعل من قيم العدالة مجرد شعارات فارغة لا تجد لها مكانًا في الحياة العملية.
وفي النهاية، تطرح القصة تساؤلًا مفتوحًا حول مفهوم “الصواب” و”الخطأ” في مثل هذه الأوضاع. هل يمكن للمرء أن يحافظ على نزاهته في بيئة يتفشى فيها الفساد بشكل ممنهج؟ أم أن الأفراد يضطرون للتكيف مع هذه المنظومة، ما يجعل من الصعب التمييز بين القيم والمساومات التي تُفرض عليهم؟ هذه الأسئلة هي بمثابة دعوة للتفكير في مدى قوة النظام الأخلاقي الشخصي عندما يواجه نظامًا اجتماعيًا وقانونيًا مشوهًا يفرض قوانين خاصة به.