مجتمع

عندما يهرب الأستاذ من الطباشير إلى الورق: سباق الهروب الكبير نحو التخطيط والتوجيه

ضربة قلم

لا شيء يضاهي فرحة وزارة التربية الوطنية وهي تُعلن في بهجة طفلٍ نال لعبة جديدة: “ها نحن نفتح مباراة التخطيط والتوجيه، 90 منصباً فقط، تعالوا جميعاً!” فجاءهم من كل فجٍ تربوي عميق ما يفوق 14 ألف أستاذ، كأنهم سمعوا أن الجنة باتت تتجلى في الأكاديميات الجهوية لا في السماء السابعة.

ستون منصباً في مسلك التخطيط فقط، وما تبقى لمن حالفهم الحظ في التوجيه، أما البقية فإلى مقاعد الانتظار الأبدي، حيث يسكن الأمل في الزاوية ويضع يده على خده. الأرقام وحدها تكشف حجم “الحب” الذي يكنّه الأساتذة لحجرات الدرس: كل مقعد مقابل 233 أستاذاً… رقمٌ يُثير الشفقة على المناصب ويُغري كتاب غينيس للأرقام القياسية، لا لشيء إلا لأنه يُعبّر عن حلم جماعي بالفرار.

لكن فلنكن منصفين: هذا ليس إقبالاً على ميدان التخطيط والتوجيه، بل هو إقلاع جماعي من مهنة التدريس، كأن الطباشير أصبحت مادة سامة، وكأن القسم صار غرفة تعذيب جماعي يُطلّ فيها الزمن المدرسي من الشباك وهو يضحك ملء شدقيه.

السر في هذا التهافت؟ النظام الأساسي الجديد، يا سادة! الذي فجأة -وبدون سابق إنذار- قرّر أن يمنح لمستشاري التوجيه والتخطيط “امتيازات مهنية ومادية”. امتيازات جعلت الأستاذ ينظر في مرآته صباحاً ويتساءل: “أأنا ساذج لهذه الدرجة؟! أأبقى أشرح درس جمع التكسير لأربعين تلميذاً يصرخون في انسجام أوركسترالي، بينما زميلي في التوجيه يحتسي قهوته بطمأنينة موظفٍ بلا سبورة؟”

لكن الأمر ليس مادياً فقط، بل نفسياً وسوسيو-بيداغوجياً وعصبياً وهضمياً كذلك. الأستاذ اليوم لا يهرب من القسم فقط، بل من كل ما يمت له بصلة: الصراخ المتواصل، الوجوه المنهكة، السبورات السوداء التي لم تعد تكتب ولا تُكتب، والأعباء الإدارية التي تتكاثر مثل جراثيم على مكتب الأستاذ، إلى درجة أن بعضهم صار يجمع بين صفة الملقِّن والمراقب والناسخ و”المراسل الوزاري”.

على مواقع التواصل، ترى العجب: أساتذة يعلنونها ثورة صامتة. “نريد الخروج من الأقسام بأيّ ثمن!”، “التدريس صار عقوبة لا وظيفة”، “نحن لا نُعلّم بل نُسجَن”. وحين يُسأل أحدهم لماذا يريد التخلي عن التدريس؟ يُجيب: “لأنني أريد أن أعيش… فقط أعيش”.

أما من صاغوا سياسات التعليم، فهم منشغلون بتمجيد كل ما هو استراتيجي: “الرؤية”، “الحكامة”، “إعادة التموقع”، “تأهيل المنظومة”، أما واقع القسم فلا يراه أحد. فلا عجب إن أصبح التوجيه والتخطيط “مركب نوح” الذي يحاول الجميع اعتلاءه قبل الطوفان الكبير، أو بالأحرى قبل الطوفان اليومي الذي يبدأ مع أول جرس وينتهي بالصداع.

والآن، لنتأمل المفارقة: تقرير النموذج التنموي يقول إن المنظومة التربوية تُعاني من ثلاث أزمات: أزمة جودة، أزمة ثقة، وأزمة مكانة. لكن الواقع يقول: نحن نُعاني من أزمة هروب جماعي! المعلم الذي يُفترض أن يكون عماد المدرسة صار يبحث عن مخرج طوارئ. أما المدرسة نفسها، فلم تعد سلّماً للارتقاء الاجتماعي بل مصعداً معطّلاً تتقاذفه أيادي العبث الإداري.

باختصار، لقد تحوّل التعليم من “رسالة سامية” إلى “مهمة مستحيلة”، وأصبحت مسابقات التوجيه والتخطيط مرآة لخلل عميق: عندما يصبح الفرار الجماعي هو الخيار الوحيد، فهذا يعني أن السفينة تَسْتَغيث، ولا أحد يجيب. فمن نلوم؟ الأساتذة الذين تعبوا؟ أم نظاماً لا يتعلم من أخطائه رغم أن مهنته… التعليم؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.