مجتمع

فاتح ماي: حين تقودنا النقابات كالخراف… نحو صورة جماعية

ضربة قلم

حين يقترب العيد الأممي، عيد الشغيلة والكادحين، يتحول المشهد النقابي المغربي إلى مسرح صغير يعج بالممثلين من الدرجة الثالثة، أولئك الذين يُعرفون بـ”المطورين”، ليس لأنهم يطوّرون شيئًا، بل لأنهم يجيدون ترديد الكلام المكرر، وإعادة تدوير الشعارات بنفس الرتابة التي يعيد بها البقال ترتيب علب المعلبات على رفوفه كل صباح. يطلّ علينا هؤلاء، صغارهم قبل كبارهم، ببلاغات محنطة، وبيانات لا تنفك تشبه بعضها، كأنها مكتوبة بلغة الخشب ذاتها، تُركّب على عجل بين اجتماع داخلي ممل، وموعد قهوة مع مسؤول حزبي أعلى رتبة.

هؤلاء “المطورون” لا يعترفون بأن العيد صار أقرب إلى الذكرى الرمزية منه إلى لحظة احتجاج فعلي أو قوة اقتراحية؛ ومع ذلك، فهم لا يترددون في شحذ “همم العمال” -أو ما تبقى من هممهم- بدعوات إلى النزول والاحتشاد، وكأن المشهد مشبع بالحيوية الثورية. لكن الحقيقة أن ما يجري أقرب إلى نزهة مدبرة، حيث الكل يعرف دوره، والكل يدرك الخطوط الحمراء، والكل متفق على أن لا شيء سيتغير، لكن “وجوهنا يجب أن تُرى، وأصواتنا يجب أن تُسمع، ولو كان ذلك عبر مكبرات متهالكة في زقاق متهالك”.

في كل سنة، تتكرر نفس الحيلة: تُطبع منشورات ملونة بلون الدم والأمل، تُوزع اللافتات التي لم تُغسل منذ آخر مسيرة، ويُسحب العمال من وحداتهم الإنتاجية، بعضهم مجبر، وبعضهم مضحوك عليه بكأس شاي وقميص يحمل شعار النقابة. وبقدرة قادر، يتحول عامل المعمل المنهك إلى “مناضل صنديد” فقط لأنه رفع يافطة أمام مقر الولاية وهو لا يعرف حتى ما المكتوب عليها.

القيادات النقابية تعرف اللعبة جيدًا، فهي لا تنتظر من فاتح ماي أن يزعج الحكومة أو يهدد الباطرونا، بل تريده مناسبة لتأكيد الوجود، واستعراض العضلات الهشة التي لم تعد تتحرك إلا تحت ضوء الكاميرات، أو أمام ضيوف السفارات والمنظمات الدولية. وبين خطاب وآخر، يَحْدث نفس الشيء: شجب، إدانة، مطالبة بتحسين الأجور، الدفاع عن التقاعد، ثم… سلامٌ عليكم إلى السنة القادمة.

النقابات، التي كانت يوما ما حصونًا للكرامة، أصبحت اليوم تُدار بعقلية “مكتب الوساطة”، وتُقاس فعاليتها بعدد البلاغات لا بنتائج التفاوض. أما “المطورون”، فهم أول من يحفظ أسماء الوزراء والمسؤولين ويتجنب انتقادهم، حتى لا تُغلق الأبواب في وجوههم في المستقبل القريب حين يُعرض عليهم منصب في مجلس معين، أو ترشيح في انتخابات لا أحد يهتم بها. هؤلاء لا يرون العمال إلا ككتلة قابلة للاستثمار التعبوي المؤقت، يُؤتى بها وقت الحاجة ثم تُعاد إلى الهامش، إلى سُلم الإنتاج المهترئ والواقع المأجور.

والأدهى أن بعض هذه النقابات بات لها أكثر من “جناح”، كأنها أحزاب داخل الحزب، كل جناح يَدّعي الثورية وينعت الآخر بالبيع، والعمال في الوسط، يسمعون جعجعة ولا يرون طحنا. إنهم يتلقّون خطابات لا تمت لهم بصلة، تصيغها عقول مفصولة عن نبض المصنع وعن صخب الحياة اليومية. بياناتهم تُكتب في المكاتب، ثم تُقرأ تحت شمس حارقة على مسامع من لا يملكون حتى أجرة التنقل إلى المظاهرة.

ثم نصل إلى مشهد القمة، حيث تظهر القيادات بملامح جدية أمام الكاميرات، ترفع القبضات كما تُرفع في أفلام الزمن الجميل، وتردد الشعارات التي تشبه طقوسًا فولكلورية أكثر منها احتجاجًا حقيقيًا. بعضهم لا يَكفّ عن التصريح للصحافة بأن هذا العيد هو “محطة نضالية بامتياز”، بينما هو في العمق محطة لالتقاط الصور، وتثبيت الأقدام في المشهد الرمزي لا غير.

وبعد أن تنتهي المظاهرات، وتُطوى اللافتات، يعود “المطورون” إلى مواقعهم خلف المكاتب، يعدّون عدد الحاضرين، ويحاولون تحويل الأرقام إلى “إنجاز تنظيمي”، بينما يعود العمال الحقيقيون خلال كل “محطة نضالية” إلى وحداتهم، منهم من سيُخصم له من أجره بسبب غيابه، ومنهم من سيتعرض لتوبيخ أو طرد، لكن لا أحد سيتكفل بالدفاع عنهم فعلًا، لأن “المعركة الحقيقية انتهت” فور انتهاء التقاط الصورة الجماعية.

وهكذا يستمر المسرح، عامًا بعد عام، نعيد فيه تمثيل نفس المشهد باحترافية بلاستيكية، نحتفل فيه بعيد الطبقة العاملة دون أن نُعطيها سببًا واحدًا للفرح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.