فالدار البيضاء: واش خاصنا نكرّيو بوليسي باش نمشيو نشريو الخبز؟!

ضربة قلم
هل أصبح التجوال في شوارع الدار البيضاء مغامرة يومية؟ وهل صار على المواطن العادي، البسيط، الذي بالكاد يوفّق بين ثمن الخبز وفاتورة الماء، أن يضيف بندًا جديدًا إلى ميزانية البقاء: “اكتراء حارس أمن خاص” لمرافقته إلى المخبزة أو الروض أو حتى لشراء دواء من الصيدلية؟ الأمر لم يعد مجرد شعور بعدم الأمان، بل أصبح واقعا مرعبا يتسلل إلى تفاصيل الحياة اليومية، ويقلب مفهوم “الفضاء العمومي” إلى ما يشبه حقل ألغام: لا تدري من أين سيأتيك الخطر، ولا كيف سينتهي يومك.
الواقعة الأخيرة التي هزّت منطقة الأزهر بالدار البيضاء لم تكن سوى حلقة جديدة من مسلسل الإجرام اليومي الذي اعتدنا عليه لدرجة أن الدم صار مشهدا عاديا، والركض وراء المجرمين مادة للفرجة في كاميرات المراقبة. سيدة، أم، رفقة طفلتها، تتعرض لهجوم شرس من طرف لصين يمتطيان دراجة نارية، وكأنهما ذئبان جائعان في مدينة لا قانون فيها، لا خوف من العقاب، لا حضور رادع للدولة، فقط الفوضى، ثم المزيد من الفوضى.
الضرب بالسلاح الأبيض، في واضحة النهار، أمام الإقامة، في حي سكني، قرب المارة… وكل هذا لم يعد كافيا لإثارة الذعر العام أو إعلان حالة طوارئ أمنية. الضحية تنقل للمستشفى لإجراء عملية جراحية على يدها التي جرحت، لكن الجرح الأكبر هو ذاك الذي يتسع في وجدان البيضاويين، في إحساسهم المنهك بعدم الأمان، في حيرتهم من هذه المدينة التي أصبحت غابة لا تنام.
هل الأمر يتطلب من كل فرد أن يتحول إلى وحدة أمن متنقلة؟ أن يحمل “الكاسك” والعصا والصفارة ومزيل الخوف؟ هل هذا هو مستقبل المدينة التي لطالما تباهينا بها كعاصمة اقتصادية، وواجهة المغرب الحداثية؟ أن نُخيَّر بين التعايش مع الإجرام أو الالتحاق بالعيادات النفسية؟ لأن ما يحدث، في الحقيقة، ليس مجرد جريمة بل هو اغتصاب يومي لحقنا في الشعور بالأمان.
هناك سؤال مؤلم لا يريد أحد طرحه: من الذي يخسر حين تتراجع الثقة بين المواطن وشارعه؟ الدولة؟ السلطة؟ أم المواطن نفسه؟ الجواب أن الكل يخسر، ولكن المواطن هو أول من يدفع الثمن: في جسده، في نفسية أطفاله، في قلق زوجته، في خوف والدته حين يتأخر خمس دقائق عن العودة إلى البيت.
المصالح الأمنية تدخلت، نعم، كما في كل مرة. فتحت تحقيقا، نعم، كما في كل مرة. شاهدت كاميرات المراقبة، نعم، كما في كل مرة. ثم ننتظر… هل يُعتقل الجناة؟ ربما. هل يُحاكمون؟ ممكن. هل تُطوى الصفحة بسرعة؟ أكيد. ثم نعود في اليوم الموالي لنكتب عن ضحية جديدة، في حي جديد، وربما بنفس الدراجة النارية، وربما بنفس السكين، وربما بنفس العجز واللامبالاة المؤسساتية التي تترك الأحياء تتحول إلى بؤر رعب تدريجية.
الدار البيضاء، التي كانت قبل سنوات قبلة الأحلام، تتحول شيئًا فشيئًا إلى مدينة يخاف فيها الناس على حياتهم أكثر مما يخافون على لقمة عيشهم. صار الخوف أكثر حضورًا من الشرطة، واللصوص أكثر جرأة من المارة، والمواطن أكثر استسلامًا من أي وقت مضى. فهل المطلوب منا أن نؤمن أن هذه هي “الطبيعة الجديدة” للمدينة؟ أن نُعيد تعريف ما يعنيه أن تكون بيضاويًا؟ أن تُدرّب أبناءك على الركض بدل القراءة؟ أن تُعلمهم كيف يُخزّنون أرقام النجدة بدل حفظ الأناشيد الوطنية؟ أن يتحوّل “الحي الآمن” إلى مجرد تسمية عقارية فاقدة المعنى؟
في غياب سياسة أمنية شاملة وحقيقية، وفي ظل انشغال الدولة بترقيع صورتها هنا وهناك، تتحول المدن إلى أراضٍ سائبة، ويكتشف الناس أنهم وحدهم في المعركة: إما أن يدفعوا للـ”سيكيريتي” كي يحميهم، أو يُدبّروا أمرهم مع الله. وما أكثر من أصبح يتوكل على الله فقط، بعد أن خذلته الأرض وكل من عليها.
لن تُحل المشكلة ببلاغ صحفي ولا باعتقال موسمي لبعض المتورطين. المطلوب مراجعة جذرية لوظيفة الأمن في المدينة. مطلوب شرطة حقيقية، لا مجرد دوريات تمر بين الحين والآخر لإلقاء التحية على “المقدم” أو “مول القهوة”. مطلوب تفعيل الكاميرات، توسيعها، ربطها مباشرة بمراكز تدخل فعالة، وليس فقط استخدامها بعد وقوع الكارثة كأداة لتحديد ملامح المجرم، الذي يكون غالبا قد عاد لينام في بيته بعدما سرق حقيبة امرأة أو كسر أنف رجل أو قطع يد فتاة بريئة.
لن نُسهب في الحديث عن الفقر، التهميش، البطالة، كلها عوامل نعرفها ونعيشها، لكنها لا تبرر هذا النوع من التوحّش. السكين لم تعد أداة “تخويف”، بل صارت سلاحًا يوميًا، يكفي أن تغضب لصًا أو ترفض أن تعطيه مالًا حتى يجز عنقك دون لحظة تردد. هذا التطبيع مع العنف كارثي، أخلاقيًا ونفسيًا ومجتمعيًا.
في النهاية، سيبقى السؤال المؤلم يلاحقنا: من يحمينا؟ من يعطينا الحق في المشي بأمان؟ من يضمن أن لا تتحول كل طفلة صغيرة إلى شاهدة على جريمة ضد أمها؟ من يعيد للمدينة هيبتها، وللمواطنين حقهم في العيش بلا رعب؟
الجواب -للأسف- ليس في الأفق. فقط صدى صفارات الإسعاف، وصوت القنوات وهي تبث بلاغات الشرطة، ووجوه باهتة لمواطنين قرروا أن يحبسوا دموعهم، لأنهم يعرفون أن لا أحد في “الطابق الأعلى” يهتم.