فصل دراسي من الجحيم: حين تحوّلت المدرسة إلى مسرح لاغتصاب الطفولة وصمت الإدارة أقسى من الجريمة

ضربة فلم
كان يمكن لهذه الحكاية أن تُدفَن مع أوراق الخريف في سنة 2022، لكنها قرّرت أن تُعمِّر أكثر من ملفٍّ عقاريٍّ في إدارةٍ مغربية. أولياء أمور التلميذات اللّواتي احترقت طفولتهن تحت طبشورة أستاذ اللغة الفرنسية “المهدي.ك” ما زالوا يُحصون أيامهم أمام أبواب العدالة، ينتظرون اللحظة التي تنتقل فيها مديرة المدرسة من مقعد “الشاهدة الغائبة” إلى قفص الاتّهام. ثلاثون سنةً حَكمت بها المحكمة على الأستاذ في الدرجة الابتدائية، ومع ذلك ما زال الآباء يشعرون كأن العدّ التنازلي لم يبدأ بعد.
المديرة المحترمة (نوال.ت) تُتقن لعبة “لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم” أكثر من ثلاثة قرون على تمثال نحاسي. كانت تعرف أن الأستاذ يملك مفتاح كل قاعة وكل ضحية، لكنّها اكتفت بإغلاق باب قاعة الأساتذة في وجه الباقين “حتى لا يزعجوه” وهو “يشرح” درسه العملي في الاستغلال الجنسي. البنت التي سقطت مريضة وكشفت الفضيحة فتّحت عيون الجميع، إلا عيون السيدة المديرة: تلك ظلت نصفَ مغمضة ما دام الحساب البنكي يتنفس بسلام.
النيابة العامة استمعت للجميع مرّةً، ثم عيّنت جلسة، ثم غيّرت رأيها، ثم أعادت الملف إلى الضابطة القضائية لتدقق أكثر في ما هو مدقَّق أصلاً. وكلما انتقل الملف من مكتبٍ إلى آخر، كان الآباء يحفظون رقمَ الملف كما يحفظ المغاربة نتيجة مباراة وديّة لا قيمة لها. وعندما يُسألون: “إلى أين وصلتم؟” يردّون بسخرية سمجة: “وصلنا بابَ المحكمة وتوقفنا في طابور طويل لشراء طابعٍ بريدي”.
الأستاذ نفسه لم يكلّف النيابة عناء البحث كثيراً؛ اعترف بكل شيء: من استقطاب القاصرات إلى تصوير مشاهد “تعليمية” مع خمورٍ جيدة المذاق، مروراً بعقود سرّية تُلزم الضحية بالصمت وتَعِدها بزواجٍ مزخرف عند بلوغها سنّ الرشد. غرور الرجل جعله يردد أمام التلاميذ أنه المدير الحقيقي، لأن عنده من “الأسرار” ما يكفي لإغلاق المؤسسة في رمشة عين. وعلى ما يبدو، صدّقته المديرة: كانت تعده باستمرار دفع راتبه لزوجته وتدريس أبنائه مجاناً… ضريبة الصمت لا تدفعها الضحايا وحدهن.
كاميرات المراقبة؟ موجودة في جميع الأقسام. كانت المديرة تستعين بها لتعاقب تلميذاً يقف على كرسيّ، لكنها “عمياء” حين يتعلّق الأمر بأستاذٍ يغلق الستائر ويبدأ حفلة تحرش جماعية. إحدى الشكايات تروي أن بعض من يُسمَّون “المربين” وصل بهم الاستخفاف إلى تقبيل تلميذات في مناطق حساسة داخل الفصل، فيما يطلب الأستاذ من أخريات تمشيط شعره الطويل وهو يدخن سيجارته بانتصار. أمّا التلميذات اللواتي رفضن “التربية الحديثة” فقد وُصمن بـ“المشاغبات” واستُثنين من الدروس الإضافية… لأن الثمن هنا ليس مالاً بل جسداً.
لماذا لم تُحرَّك المسطرة ضد المديرة؟ الجواب الرسمي: “نُعَمِّق البحث”. الجواب غير الرسمي: ربما لأننا نحتاج أن “نعصر” القوانين حتى تخرج منها روح العدالة. لا أحد يطالب بتلاوة كل الفصول الجنائية من 485 إلى 448 مكرر، يكفي أن القانون يعرف جريمة الاتجار بالبشر وهتك عرض القاصر ويضع لها عقوبة قد تصل إلى المؤبد. ما يحتاجه الآباء الآن هو أن يعرفوا متى ستنتقل الأفعال من خانة “الاجتهاد الإداري” إلى خانة “القصاص القضائي”.
الملفّ اليوم في جولة ماراطونية بين الضابطة القضائية والنيابة العامة وغرفة الجنايات. طلب المشتكين واضح: إحالة الشكاية على الفرقة الوطنية للشرطة القضائية لفكّ طلاسم العلاقة بين المديرة والأستاذ وجرد الهواتف والحواسيب وتجميد الحسابات البنكية لمن لازالوا يختبئون خلف جدران التعليم الخاص. بعض المشتكى بهم في حالة فرار، لكن لا خوف عليهم ما دام القانون يسير بخطى سلحفاةٍ يجبّنها الصمت.
وسط هذا العبث، يعلّق أحد الآباء: “لم نعد نسأل عن مستقبل بناتنا الدراسي، بل نسأل هل سيُنجَز تقرير الخبرة التقنية على كاميرات المدرسة أم سيضيع التسجيل في حفرة مظلمة؟”. أمّا أمٌّ أخرى فتهمس: “قالت لي المديرة: بناتكم بخير. قلت لها: بخير بعد افتضاض البكارة؟ ردّت: القضاء سيأخذ مجراه. قلت: أي مجرى؟ قناة الصرف الصحي؟”.
هكذا تستمر الحكاية: ضحايا في عمر الورد يُشهر في وجوههن سوطُ الروتين القضائي، ومديرةٌ تتقن فنّ التملص، وأستاذٌ ينتظر الاستئناف متكئاً على وعودٍ بظهرٍ قوي. ويبقى الآباء بين خيط أملٍ رفيع ودواليب عدالةٍ ثقيلة؛ يقرأون تصريحات المسؤولين عن “تسريع وتيرة البتّ في قضايا العنف ضد القاصرين” كما يقرأون النشرة الجوية: احتمال زخّاتٍ مطرية ضعيفة، أما الجفاف فمؤكد.
ومن يدري؟ قد نحتاج إلى معجزةٍ قانونيةٍ تُدخل المديرة إلى القفص قبل أن تنقرض الذكرى الأخيرة للضحايا. وحتى يحدث ذلك، سيظل رقم الشكاية يُتلى في البيوت مع أذكار المساء، في انتظار أن يرنّ هاتف أحد الآباء بخبرٍ طال انتظاره: “لقد تحرك الملف أخيراً… نحو جلسة أخرى، بعد العطلة القضائية”.