في المغرب: يبتسم الشر مطمئنًا، فهل مات الخير أم باعوه؟

م-ص
لعل من أكبر التناقضات التي يعيشها الإنسان المعاصر، هو اقتناعه العميق بأن الخير ينتصر دائمًا في النهاية، بينما يشهد بأم عينيه، في واقعه اليومي، أن الشر هو الذي يزدهر ويترسخ، لا سيما في الدول التي يسود فيها القمع، وتُخنق فيها الأنفاس، ويُشرى فيها صوت المعارض بفتات من المال أو مكاسب آنية. هذا التناقض بين الإيمان والأحداث يطرح تساؤلات وجودية عميقة، بل ويضع العقل في مواجهة محيرة مع النفس: هل نحن مخدوعون في تصورنا للخير؟ أم أن الشر أكثر تنظيمًا، وأكثر قدرة على التنكر والتلون حتى لا يظهر على حقيقته؟
الإنسان منذ القدم كان يميل فطريًا إلى تصور الحياة كسردية كبرى يُكافأ فيها الطيبون ويُعاقب فيها الأشرار، وهو تصور يغذيه الدين، والأسطورة، وحتى الأدب، لأن النفس البشرية لا تحتمل عبثية عالم يُظلم فيه المستقيم، ويُكافأ فيه الخبيث. لكن الحياة الواقعية ليست سردية أدبية، بل مسرح تتزاحم فيه القوى، وتتصارع فيه الإرادات، وغالبًا ما تكون اليد العليا فيه لمن امتلك القوة، لا لمن امتلك الحقيقة أو الأخلاق. هنا تبرز مشكلة خطيرة: الشر لا يتغلب فقط لأنه أقوى، بل لأنه أكثر دهاء، لأنه لا يتورع عن استخدام أي وسيلة، بينما الخير يظل مقيدًا بقيوده الأخلاقية.
في الدول التي يسيطر فيها القمع، يُعاد تشكيل مفهوم الخير نفسه. فالمعارض الشريف يصبح مشوشًا، تُتهم نواياه، يُحاصر رزقه، يُشوه تاريخه، فيصبح الخير مُربكًا، رماديًا، فيما يبدو الشر منظما، مسيطرا، قادرًا على شراء الأصوات، وتوجيه الإعلام، وإعادة تشكيل الوعي العام، بل وحتى تصنيع “معارضة مزيفة”، يُتحكم فيها كما تُتحكم دمى الخشب بخيوط غير مرئية. هذه الأنظمة القمعية لا تُمارس القهر فقط عبر السلاح أو القانون، بل عبر هندسة الوعي، وإفراغ المفاهيم من محتواها: فالحرية تصبح فوضى، والكرامة تصبح تمردًا، والعدالة تصبح مؤامرة على الاستقرار.
ولأن الشر لا يُعلن عن نفسه، فإنه يتخفى في لبوس المصلحة الوطنية، في شعارات الأمن، في عبارات من قبيل “عدم جاهزية الشعب للديمقراطية”، فيُصبح قمع الصحفيين إجراءً ضروريًا لحماية الدولة، ويصبح إفقار الشعب سياسة اقتصادية، ويصبح سكوت المثقفين تَفَهُّمًا للواقع. وحين تُشترى المعارضة، يُكمل الشر حلقته الأخيرة: فيتحول صوت من كان يجب أن يوقظ، إلى مجرد صدى باهت لا يُخيف أحدًا. وما أخطر هذا النوع من المعارضة: لأنها تُوهم الناس أن هناك توازنا، بينما في العمق لا شيء سوى مهادنة وتواطؤ.
الشر في هذه المجتمعات لا ينتصر لأن الناس أشرار، بل لأنه ينجح في جعل الشر يبدو “واقعًا لا بد منه”، أو “قدرا لا يُرد”، فيُربى الناس على الخوف، على النفاق، على الكلام في السر والسكوت في العلن، ويصبح كل فرد مشغولا بنجاته الفردية: كيف يحافظ على منصبه، على رزقه، على أطفاله، على سمعته… وهكذا يتحول الناس إلى أدوات بيد الشر، حتى دون أن يشعروا. إننا لا نتحدث هنا عن شر خارق، بل عن شر ممنهج، يتمدد في الإدارات، في المؤسسات، في المدارس، في الصحف، حتى في الضمائر.
لكن لماذا يظل الناس، رغم كل هذا، يؤمنون بأن الخير ينتصر في النهاية؟ لأنهم، ببساطة، يحتاجون لهذا الأمل ليستمروا في العيش. فالإنسان لا يستطيع أن يعيش دون أمل، ولو كان كاذبًا، لأن الحقيقة المُطلقة التي تقول إن الشر ينتصر دائمًا قد تقتله نفسيًا. لذلك يستمر الناس في قول: “الخير ينتصر في النهاية”، دون أن يُحددوا متى تكون تلك “النهاية”. ولعل هذا التحديد المؤجل هو ما يُبقي الفكرة حيّة. أمل غامض، مؤجل، لكنه كافٍ ليمنع الانهيار الكامل.
ومع ذلك، لا يمكننا أن نقول إن الخير لا ينتصر أبدًا. بل قد ينتصر، لكن بثمن غالٍ، وفي زمن طويل، وبعد خسائر لا تُحصى. الخير لا ينتصر إذا ظل حالمًا، يُراهن فقط على صفاء النية. بل يحتاج إلى أن يتعلم من الشر تنظيمه، صبره، إصراره، وتخطيطه. يحتاج إلى أن يتخلص من وهم “النقاء الكامل” ويدخل المعركة بكل وعي، دون أن يفقد ذاته. الخير قد يكون بطيئًا لأنه لا يستخدم نفس أدوات الشر، لكنه حين يتجذر في وعي الناس، يتحول إلى قوة لا تُقهر. غير أن ذلك لا يحدث بمجرد الدعاء أو التمني، بل بالثمن، بالمواجهة، بالإصرار، بالتربية على المقاومة اليومية.
إن السؤال الحقيقي ليس: “لماذا ينتصر الشر؟”، بل: “متى يُقرر الخير أن يتحول من شعور داخلي إلى سلوك جماعي منظم؟”. فما دام الخير عاطفة فردية، سيظل الشر هو المُهيمن. لكن حين يتحول الخير إلى مشروع، إلى وعي جمعي، إلى حركة مقاومة شاملة، حينها فقط يمكن أن نرى بدايات التغيير، ولو كانت بطيئة. فالشر لا يسقط دفعة واحدة، بل يتآكل كما تآكل الخير من قبل: رويدًا رويدًا.
هل تعتقد أن الخير يمكنه أن يستعيد زمامه في عالم اليوم؟