مجتمع

في زمن الامتحانات واللامبالاة: حكاية تلميذ فقير ومراقبين يستعرضون عضلاتهم بدل تأدية واجبهم

ضربة قلم

في زمن يُفترض فيه أن تتجند كل قوى الأمة لتأمين ظروف سليمة ونزيهة لاجتياز امتحانات الباكالوريا، وفي وقت يُنتظر فيه من رجال المراقبة والحراسة أن يكونوا صمام أمان ضد الغش والانفلات، وقعت حادثة تكشف عن الوجه الآخر، الأكثر ظلمة، لبعض من نُفترض فيهم المسؤولية والانضباط. يروي القصة رجل تربية مشهود له بالمصداقية، ويُفترض أن تكون شهادته بمثابة جرس إنذار لما بات عليه واقعنا الأخلاقي والسلوكي، لا سيما عندما يتعلق الأمر بأبناء الشعب البسطاء ممن لا سند لهم سوى الله وضمائر الناس… التي يبدو أن بعضها باتت في عطلة دائمة.

بداية الحكاية: حافلة ومسؤولية مغيبة

صبيحة يوم ثلاثاء، في خضم أجواء الامتحانات الجهوية، صعد التلميذ، ابن الأسرة الفقيرة، إلى الحافلة العمومية الرابطة بين المحمدية والبرنوصي، قاصداً مركز الامتحان. الوقت ما بين التاسعة والعاشرة صباحاً، حين يكون الجميع تقريباً في مكاتبهم أو مدارسهم، وحين يفترض بالحراس والمراقبين، أو كما يُطلق عليهم شعبياً “الحراس العضال”، أن يكونوا أكثر حذراً ومسؤولية.

لكن هؤلاء الحراس – أو بالأحرى من يرتدون بزّتهم – لم يركزوا جهودهم على تأمين الحافلة من “الشماكرية الموشومين” أو من يُشكلون خطراً حقيقياً على راحة وأمان الركاب، بل اختاروا هدفاً أسهل، أضعف، وأقل قدرة على الدفاع عن نفسه: تلميذ فقير، ملامحه البسيطة وسَمتُه المتواضع لا يتركان مجالاً للشك في انتمائه إلى الطبقات المسحوقة من هذا الوطن.

مشهد الاستعراض: الحراس يَستقوون على الضعيف

بدل أن يتحلوا بالحكمة والتفهم، أو حتى بحد أدنى من اللياقة الإنسانية في التعامل، بدأ الحارسان باستعراض عضلاتهما على التلميذ، كأنهما وجدا فيه فرصة مثالية لإبراز “سلطتهما” وسطوتهما. رفضا إنزاله في محطته، وكأنهما ينتقمان منه “لله في سبيل الله”، كما يروي الراوي ساخطاً.

في جوّ لا يمكن وصفه، شرع التلميذ في توسل الحارسين، بكلمات يملؤها الرجاء والانكسار: “عافاكم، عندي امتحان… راني ماشي حراكي، راه غي الوقت اللي غلبني”. كانت توسلاته تشقّ صمت الحافلة مثل سكين، لكن القلوب التي يُفترض أن ترقّ لطفل في لحظة مصيرية، بدت وكأنها قد تحجّرت، أو ربما غادرت الخدمة مثل كثير من الضمائر في هذا البلد.

شعلة التضامن: امرأتان بألف رجل

ولأن في كل ظلمة بصيص نور، كانت هناك في الحافلة امرأتان من عامة الناس، ربما أمهات أو مجرد راكبتين شعرن بمرارة الظلم. قررتا التدخل. لم تناقشا أو تجادلا كثيراً، بل دفعتا غرامة التلميذ: ليس فقط 25 درهماً كما يُفترض، بل ضاعفتاها إلى 50 درهماً. قد يكون هذا المبلغ قد دخل جيب الحارسين مباشرة، دون إيصال أو أي سند قانوني، ما يُرجح فرضية “الخطفة” أو الابتزاز، ويضع أكثر من علامة استفهام حول سلوكيات بعض من أوكل إليهم تأمين النقل العمومي.

أبعاد تتجاوز الواقعة

ليست القصة في ظاهرها إلا واقعة بسيطة، لكنها في عمقها تعبّر عن أزمات متراكبة: أزمة القيم، وأزمة التربية، وأزمة السلطة حين تنحرف عن أهدافها. وهي تعبير عن أزمة مجتمع لا يحمي أبناءه الضعفاء، ويتركهم فريسة سهلة أمام سلوكيات عدوانية ومهينة تمارس باسم القانون أو النظام.

  • من المسؤول عن هذه المهزلة؟
    • هل هي شركة النقل التي لا تراقب سلوك موظفيها؟
    • أم الدولة التي تتغاضى عن الممارسات المهينة التي يتعرض لها المواطن الفقير في الشارع، في المؤسسات، وحتى في رهبة الامتحان؟
    • أم نحن كمجتمع صامت، نكتفي بالمشاهدة دون أن نحرك ساكناً؟

الخلاصة: هل يُعقل أن تكون الطريق إلى الامتحان محفوفة بالذل؟

الامتحان يجب أن يكون محطة للجد والاجتهاد، لا مناسبة للذل والإهانة. كيف ننتظر من تلميذ يشعر بالإذلال والقهر أن يُركز على ورقة الامتحان؟ كيف نطلب منه أن يثق في دولة يرى ممثليها يتصرفون بعجرفة واحتقار؟

إن حادثة هذا التلميذ ليست مجرد قصة حزينة، بل صرخة في وجه نظام تربوي ونقل ومراقبة اجتماعية باتت في كثير من حالاتها عرجاء، أو أسوأ: متواطئة.

فلنعد الاعتبار للكرامة، لأن الكرامة لا تُجزأ، ولأن أبناء الفقراء ليسوا أقل قيمة من غيرهم. ولأن من يعاني من الظلم في صباح امتحان، لن ينسى هذا الظلم ما حيِي، وسيظل يطارده في نظرته إلى الدولة والمجتمع والمؤسسات.

فهل من آذان صاغية قبل أن يصبح الذل جزءاً من مناهجنا غير المكتوبة؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.