مجتمع

قلوب ميتة: جاحدون يتمنّون الموت لآبائهم

في هذا المشهد الإنساني القاتم، حيث تنقلب الفطرة، وتتفسّخ الروابط التي تشدّنا كبشر إلى بعضنا، نجد أنفسنا أمام واحد من أكثر المظاهر إثارة للأسى والأسف: أبناء ينتظرون موت آبائهم، لا بدافع الحزن أو الرهبة من الفقد، بل بدافع الطمع، لاقتسام الإرث. هنا لا نتحدث عن مجرد نزاع عائلي مألوف، ولا عن خلاف على تقسيم الثروات بعد الرحيل، بل عن قلوب تعفنت فيها الرحمة، وانطفأ فيها الحياء، حتى صارت تُخفي تحت وجوه عابسة أو مبتسمة رغبة دفينة، وربما معلنة، بأن يُسدل الستار سريعًا على حياة من منحهم الحياة.

إن الأب، في صورته المثلى، هو منبع التضحية. رجل قد ينكسر، يتعب، يجوع، يشقى، يذلّ نفسه لأجل أن يعيش أبناؤه مرفوعي الرأس. قد ينام على الأرض ليضعهم على السرير. قد يعمل فوق طاقته، ويرضى بأقل القليل، ليحمل على كتفيه مستقبل أولاده. كم من أب صمت عن الألم، وتحمل الجحود، لأنه كان يظن أن صبره سيزهر وفاءً، أو أن تعبه سيُردّ جميلًا، أو أن نُبله سيُثمر أبناء نبلاء. لكن، ويا للمفارقة، كم من أب قضى عمره ينحت في الصخر ليبني صرحًا، فإذا به يُطعن في شيخوخته ممن تربّوا في هذا الصرح نفسه.

تتحول البيوت أحيانًا، في ظل هذه العقول المريضة، إلى مسارح خفيّة لصراعات لا تُقال، لكنها تُشعر وتُلمح. ربما يتحدث الأب عن مرضه، فيتبادل الأبناء النظرات. ربما يسقط في المصحة، فيُسارع البعض إلى حساب التكاليف، لا بدافع القلق، بل بدافع الخوف من أن “تأكل” العناية الطبية من التركة. وربما، وهذا أشدُّ ما يُحزن، يردد أحدهم بينه وبين نفسه: “متى يُريحنا الله منه؟” لا لألم، ولا لتعب، بل لأجل أن يُفتح باب المصرف، ويُفرغ الخزينة.

ولأن النفوس الرديئة لا ترضى بالقليل، فإنها لا تكتفي بتمني الموت، بل قد تُزيّنه حتى للوالد نفسه، في محاولات مبطّنة لزرع اليأس. تجدهم يبررون: “أبي عيّان، لماذا يعاني؟” لكن أعينهم تفضحهم. الهمّ ليس ألمه، بل تأخُّر غيابه. وقد يلجأون لوسائل أشد قسوة: الإهمال، الضغط النفسي، العزلة، إشعاره بأنه عبء، كل ذلك من أجل أن يُسرع الرحيل، ويبدأ فصل الحصص والأنصبة.

إن من يتمنى موت أبيه ليقتسم ماله ليس فقط خائنًا لأبيه، بل خائن لإنسانيته، لعقله، لفطرته. ليس فاشلًا فحسب، بل ساقط في أدنى دركات السقوط. فالفشل هنا لا يعني فقط أنه لم ينجح في حياته المهنية أو الاجتماعية، بل يعني أنه فشل في أن يكون إنسانًا. فشل في أن يكون ابنًا. فشل في أن يرى في والده إنسانًا قبل أن يراه خزنة. فشل في الاحتفاظ بالحد الأدنى من الوفاء والحياء والرحمة. ومثل هذا الفشل لا دواء له، لأنه فشل في القلب.

هؤلاء الأبناء، حتى لو اقتسموا الميراث، لن ينعموا به. فالثروات الملوثة بالأنانية والخذلان لا تُثمر سعادة. يملكونها، نعم، لكنهم يظلون فرغين، فارغين، ناقمين على العالم، حانقين على بعضهم، يشكّ بعضهم ببعض، لأن من خان أباه لا أمان له. فالأخوّة التي تبدأ بالخيانة لا تنتهي بالوفاق. وكل واحد منهم يرى في الآخر خصمًا، شريكًا في الجريمة، ومرآةً لذلّه الأخلاقي.

وكم من أبناء كهؤلاء ندموا بعدما فاتهم وقت الندم. كم من واحد بكى على قبرٍ لم يُحبّ صاحبه حيًا. لكن لا بكاء يطهّرهم، ولا ندم يُعيد الكرامة. لأنهم، في لحظة من اللحظات، وقفوا أمام المرآة ورأوا فيها طيفًا يشبههم… لكنه بلا قلب.

فما أقسى أن تتحول الأبوة في أذهان البعض من نعمة إلى حساب بنكي، وما أتعس أن تكون نظرتهم لأبيهم كعدّادٍ يعدّ الأيام لا ليُطيل العمر، بل ليحسم كم بقي له ليُدفن… وتُقسم التركة.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.