مجتمع

قهوة الصباح… ورائحة الجوارب

م-ص

ونحن نحتسي قهوتنا هذا الصباح، تلك التي نُسميها مجازًا “قهوة للتأمل” لا للاستفاقة، اخترق صمت المقهى صوت ماسح أحذية بسيط، يحدّث زبونه وهو ينحني على حذائه بجدية لا تقل عن جدية من يلمّع ضميره:

“تصوّر سيدي… كثيرون أمسح أحذيتهم وروائح جواربهم نتنة!”

ضحكنا أول الأمر، لكن العبارة كانت أعمق مما تبدو، فلسفية أكثر مما يُفترض في رجل يطوف على الأرصفة.
كأنه لا يتحدث عن الجوارب فحسب، بل عن البلاد كلّها.

كم فينا من أنيق المظهر، يضع العطر على ربطة عنقه، ويتأكد من تماسك تسريحة شعره، لكنه ينسى أن يغسل ما لا تراه العيون…
تمامًا كما يغسل بعضُهم سمعته بالتصريحات، ويترك أفعاله تنبعث منها رائحة “الفساد القديم المعتق”!

كم من سياسيّ أو مسؤول “يُلمّع حذاءه” في العلن أمام الكاميرات، بينما جوربه المالي الداخلي متسخ برشاوى صغيرة وكبيرة!
كم من وجهٍ وديعٍ نراه في الصباحات الرسمية، وداخله من النتانة ما يكفي لتلويث مدينة بأكملها!

المفارقة أن أولئك الذين يتباهون ببدلاتهم الموقعة، ينسون أن الأناقة لا تبدأ من الكعبين إلى الرأس، بل من القلب إلى الضمير.
فما جدوى حذاء لامع إن كانت خطواته تسير نحو السرقة؟
وما نفع ربطة العنق الحريرية إن كانت تخنق الحقيقة كلما اقتربت منها؟

أما ماسح الأحذية المسكين، فربما لا يملك ثمن جوارب جديدة، لكنه يملك حسًّا نقيًا يرى القبح في رائحة العفن الأخلاقي قبل أن يشمّه.
هو الفيلسوف الصامت الذي لم يدخل جامعة، لكنه حفظ عن الأرصفة كل ما يحتاجه من دروس في الأخلاق والكرامة.

قهوته – إن شربها – باردة غالبًا، لكن كلماته ساخنة كجمر الضمير.
وما قاله هذا الصباح ليس مجرد ملاحظة عابرة عن الجوارب، بل مرآة صغيرة للزيف الكبير الذي نعيشه.

في زمن يُقاس فيه النجاح بعدد الصور المنشورة وعدد العقود الموقّعة، يصبح الحذاء اللامع وسيلة لإخفاء الوحل العالق بالأقدام.
ومع ذلك، لا بأس… فطالما في البلد من يسمع ماسح الأحذية ويفهم رمزه، ما زال فينا أمل بأن تُغسل الجوارب… وربما القلوب أيضًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.