مجتمع

كانت كتواسي الناس على الأثير… وحداها كيترنّح جحيم بالخمور!

ضربة قلم

 آه، ما أغرب هذه الحياة حين تصنع من أصواتنا مأوى لآلام الآخرين، وتنسى أننا نحن أنفسنا من نبحث عن مأوى. تلك المذيعة، الصوت الدافئ الذي كان يتسلل إلى البيوت مع رائحة قهوة الصباح، أو يرافق العزلة الليلية كرفيق غير مرئي، كانت أشبه بمنارة عاطفية للمئات، بل الآلاف، من النساء اللواتي كنّ يطلبن في صوتها شيئًا من الطمأنينة، أو على الأقل، شيئًا من الفهم. كانت، ببساطة، امرأة اختارت أن تستمع لآهات الناس بينما كان بيتها الداخلي يئنّ بصمت.

كم هو فظيع هذا التناقض، أن تكون أنت المعالج بينما تنزف بصمت، أن تكون المرآة التي تعكس هموم الآخرين بينما زجاجك الداخلي يتشقق دون أن ينتبه أحد. في كل يوم، كانت تستقبل المكالمات، تنصت بتفانٍ، وتُجيب كأنها الحكمة تمشي على سلك الأثير. صوتها لم يكن فقط صوتاً إذاعياً، بل كان بلسمًا، عزاءً، ومحرابًا يبوح فيه المستمعون بما لا يستطيعون حتى البوح به لأقرب الناس إليهم. كانت تبني جسورًا من الكلمات، تصنع قوارب نجاة من جمل قصيرة، تعيد للبعض شهيّة الحياة، أو على الأقل، تُقنعهم بأنهم ليسوا وحدهم في القاع.

لكن فجأة، ولأول مرة، سقط القناع الإذاعي. لم تعد المذيعة تلك المرأة الهادئة الرصينة التي توزع الاتزان بجرعات صوتية محسوبة. أجهشت بالبكاء، في لحظة عارمة من الصدق العاري، وكأنها تقول: “أنا مثلكم… بل ربما أسوأ حالاً”. تلك اللحظة، التي بدا فيها صوتها مهزوزًا ومبللاً بالدموع، كانت لحظة نادرة من التعرّي الإنساني وسط موجات إذاعية اعتادت على البث المنمق والتفاعل المهني. لم تطلب حينها حلاً، ولا نصيحة، فقط أرادت أن يُقال لها ما كانت تقوله دائمًا للناس: “صبرا جميلاً، وإنكِ لستِ وحدك”.

كان زوجها، للأسف، من أولئك الذين يخونون الحياة كل ليلة تحت قنينة. مدمن على الخمر لا يدخل البيت إلا مترنحاً، مشوهاً، مسكوناً بأشباح لا يعرف أحد سبب وجودها. ومن سخرية القدر أن الرجل لم يكن فقط زوجها، بل كان زميلها أيضًا، شريكها في الأثير قبل أن يكون شريكها في البيت. لم تكن فقط تخاف على نفسها، بل على الصورة التي بُنيت حولها، على ما تبقى من شرف الكلمة، على صدق النصيحة حين تصبح من شخص لا يستطيع حتى أن ينصح نفسه.

وتكمن المأساة الحقيقية هنا في ذلك النوع من الهموم الذي لا يُرى. فالناس يتعاطفون سريعًا مع الحزن الظاهر: مرض، فقر، فقد. أما الحزن الخفي، الذي يشبه بخار الماء في صباح بارد، لا يراه أحد، لكنه يلفح الروح ويجمدها، فهو يُهمَل. أن تكوني مذيعة ناجحة، يعني أن الناس يتخيلون أن حياتك مرتبة مثل صوتك، أن غرفتك الزوجية مرتبة مثل أسلوبك، أن زوجك رزين مثل طريقتك في مخاطبة الجمهور. لكن الحقيقة، يا سادة، أن هناك نوعاً من الناس لا يظهر عليه شيء، لأن كل شيء فيه مُنهار بالداخل.

والأدهى من ذلك، أن الذين لا يبدون مثقلين بالهموم، غالباً ما يحملون أخطرها. الهموم التي لا تُعلن، لا تُشرح، ولا تُطلب لها نصيحة، تلك هي الهموم التي تنخر النفس وتفترس الإرادة. وربما لهذا السبب بالذات، كانت تلك اللحظة الباكية التي خرجت فيها المذيعة عن النص، بمثابة الصرخة الوحيدة التي استطاعت بها أن تنقذ شيئًا من نفسها. فحين نكتم آلامنا طويلًا، نتحول إلى قنابل مؤجلة، إلى ضحايا بأصوات هادئة، نحمل في داخلنا مقابر لا يزورها أحد.

نعم، الذين لا تظهر عليهم الهموم هم أخطر الناس حزنًا. فهم لا يملكون رفاهية الانهيار، لأنهم عادة من يتكئ عليهم الآخرون. هم من نعتبرهم “قويين”، “قدّها”، “ما كيهمّوش”، بينما هم في الحقيقة يحترقون ببطء. لم يكن بكاء المذيعة ضعفاً، بل تحرراً من قيد، إعلاناً عن هشاشة إنسانية، وتصريحاً بأن حتى من يواسي الآخرين يحتاج بدوره إلى من يواسيه.

أجل، قد تُربَت على أكتاف الناس كل يوم، وتنسى أن تربّت على كتفك. وقد تشجع الجميع على الصمود بينما تنهار داخلياً كبيت طينيّ في فصل الشتاء. تلك المذيعة لم تكن فقط امرأة منكسرة، بل كانت مرآتنا جميعًا، نحن الذين نرتدي أقنعة القوة بينما نخاف أن يرانا أحد ونحن ننهار.

فليكن هذا الاعتراف الصوتي درسًا لنا جميعاً: لا أحد محصّن من الحزن، ولا أحد يجب أن يُعاقب لأنه بكى، بل لأننا لم نسأله عن السبب من قبل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.