اقتصاد

كراجات الشعب صارت بنوكًا… ثم فَرّت كالفئران

ضربة قلم

آه المؤسسات البنكية في المغرب… تلك المخلوقات الحديثة التي لم تعد تكتفي فقط بامتصاص دماء الأرصدة، بل بدأت تزاحم السماسرة في الأزقة، وتتودد إلى أصحاب الكراجات كأنها تبحث عن مأوى لا عن موقع اقتصادي. لقد بلغ التنافس بين البنوك في المغرب درجة من الشراسة جعلت بعضها تبدو وكأنها “ميني باصات” تمارس الوقوف العشوائي في كل زاوية ضيقة من أحياء المدن، والهدف؟ خطف زبون، توقيع عقد، وربما اقتناص كراج على حين غفلة.

منذ مطلع الألفية، تحوّلت المؤسسات البنكية إلى كائنات هجينة، نصفها اقتصادي ونصفها تسويقي، تركت مكاتبها في الشوارع الكبرى وبدأت تبحث عن “القرب” حتى ولو كان ذلك قربًا من بائع البيصارة أو بجوار حلاق الحي. المفارقة هنا أن الأمر لم يكن حبًا في المواطن، بل في محفظته. فكل مواطن صار عندهم “فرصة”، وكل كراج فارغ صار “فرعًا مستقبليًا”، والنية -أو ما تبقى منها- كانت دوما: الربح، ولو على حساب الثقة.

وها أنت ترى، لم يعد من الغريب أن يُطرق باب المواطن صاحب العقار في زنقة متواضعة، ويجد أمامه مندوب بنك -لا سمح الله!- يعرض عليه كراء كراجه مقابل ثمن يبدو مغريًا في ظاهره، لكنه محمّل بشروط تشبه تلك العروض الهاتفية التي تكتشف بعد شهر أنها كانت “كذبة حلوة”. وهنا تبدأ لعبة المساومة. المواطن، الذي قد يكون ورث الكراج عن جدّه، يجد نفسه محاصرًا لا فقط بعروض البنوك، بل أيضًا بالسماسرة الذين يظهرون فجأة وكأنهم يحملون توكيلًا من المؤسسة البنكية، مستعدّين لأخذ “نصيبهم” مقابل تقريب وجهات النظر.

هكذا تحوّلت العلاقة بين البنك والمواطن إلى زواج مصلحة فاشل منذ البداية. البنك يريد الكراج بأي ثمن، لكن لا يريد أن يدفعه مباشرة لصاحبه، بل يمر عبر سمسار أو موظف “عندو كلمة”. وحين تتساءل عن السبب، يأتيك الجواب في هيئة تبريرات تسويقية جوفاء: “نريد التواجد القريب من الزبون”، “نعمل من أجل القرب الاجتماعي”، “نسعى لتقريب الخدمات المصرفية من الجميع”. لكن الحقيقة؟ ما خفي كان أعظم، وما يُدبّر في الكواليس لا يُكتب في الإعلانات.

ومع مرور الزمن، تغيرت اللعبة. لم يعد المواطن هو من يلهث خلف البنك، بل البنك هو من بدأ يلهث خلف المواطن… لكن بمزاجية. تغيرت خارطة التمويل، وموجة الرقمنة جاءت لتضع حجرًا في طريق كل تلك الفروع التي انتشرت مثل الفطريات. أصبح العميل يفتح حسابه من هاتفه، ويقترض من شاشته، ويحوّل أمواله بضغطة زر، فلم تعد تلك الوكالات الصغيرة في الزقاق تجد من يزورها إلا ذوي الشعر الرمادي أو من ضاقت بهم التطبيقات.

وهكذا بدأنا نرى ظاهرة جديدة: البنوك تغلق فروعها. الوكالات التي كانت بالأمس القريب تُفتح بالدفّ والدربوكة في الأحياء الشعبية، أصبحت اليوم تُغلق بالصمت و”واحد الإعلان صغير فالباب”. لا أحد يشتاق لها، لا الزبناء ولا حتى الموظفين، لأن الجميع يعرف أن زمن الكراجات البنكية قد ولى، وأن السوق لم يعد في الزنقة، بل في السحاب… سحابة رقمية لا تُجارى.

لكن هذا الإغلاق لم يكن بريئًا. فكما فتحت البنوك فروعها بحثًا عن الربح، أغلقتها اليوم تجنبًا للخسارة. لم تعد تجد جدوى من دفع ثمن الكراء والموظفين في حي شعبي لا يتعامل سكانه سوى بالكاش أو عبر “كونط بنكي باش تبقى نخدم مع الدولة”. أضف إلى ذلك أن التنافس أضحى أشرس، والرقابة على الأسعار أضعف، وأصبحت العمولات المضحكة تُركب على ظهر كل عملية بسيطة، حتى أنك تجد مواطنًا يُسحب من حسابه 5 دراهم على مجرد التفكير في سحب المال.

وفي النهاية، نعود إلى نقطة البداية: البنوك في المغرب لم تعد مؤسسات، بل تحوّلت إلى كائنات انتهازية، تتنكر في زيّ “قرب المواطن” لتدخل جيبه، ثم تغادر حين تجف العروق، دون حتى أن تقول “شكرا”.
أما المواطن؟ فما عليه سوى أن يعلّق لافتة على كراجه:
“ممنوع الكراء للبنوك… حتى إشعار آخر.”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.