كراسي بلا نهاية: حين تتحول الجامعات الرياضية إلى ممالك خاصة لا تغادرها الوجوه القديمة

ضربة قلم
في صمتٍ ثقيل لا تكسره إلا خيبات الأمل المتوالية، تطل علينا الرياضة المغربية في كل محفل دولي بنفس النغمة الباهتة: مشاركات محتشمة، نتائج متواضعة، ثم موجة من التبريرات الجاهزة التي تلقي اللوم على الظروف، قلة الموارد، أو “الحظ العاثر”. لكن المتتبع الفطن سرعان ما يكتشف أن هناك خللاً أعمق بكثير من مجرد تعثر ظرفي. إنه خلل متجذر في هرم التسيير الرياضي، وتحديدًا في تلك الجامعات الرياضية التي أصبحت، بقدرة قادر، مقابرَ للتجديد والتطور، يُسيّرها رؤساء عمروا طويلاً حتى صاروا عنوانًا للجمود، ورموزًا لعصرٍ لا يريد أن يترجل.
لا يتعلق الأمر فقط بألعاب القوى، رغم كونها الواجهة الأبرز، ولا بالملاكمة التي كانت يومًا مصدر فخر، ولا حتى بالمصارعة بأنواعها التي أصبحت حلبة للصراعات الشخصية أكثر منها للتنافس الرياضي النزيه. بل إن كل الفروع الرياضية، من السباحة إلى التايكواندو، من رفع الأثقال إلى الرماية، من الجمباز إلى التنس، تشكو من نفس الداء: رؤساء جامعات يتحلقون حول كراسيهم كما لو كانت عروشًا لا تقبل المداولة. كأنما الرياضة المغربية لا يمكن أن تنهض إلا بأسمائهم، رغم أن الواقع يثبت، في كل مرة، أن هذه الأسماء ليست سوى عبء ثقيل على طموحات الرياضيين.
بعض هؤلاء الرؤساء يوجدون في مناصبهم منذ أكثر من عقدين، وربما أكثر. يأتون ويذهب الوزراء، تتغير الحكومات، تتبدل السياسات، ويبقى هؤلاء صامدين كأنهم أعمدة إسمنتية مغروسة في خرسانة المصالح، لا تهتز مهما اشتد الزلزال. لا أحد يعرف سر هذا التشبث المرضي بالمناصب، ولا كيف يمكن لأشخاص فشلوا مرارًا في تقديم حصيلة محترمة أن يُصروا على قيادة نفس الدفة، متناسين أن المركب قد غرق منذ زمن. والمفارقة أن معظمهم لا يملكون لا الخلفية الرياضية ولا الدراية العلمية بمجالهم، وإنما يملكون شيئًا آخر: الشبكات، الولاءات، والقدرة على صناعة التحالفات داخل كواليس الرياضة الوطنية والدولية.
لقد تحولت جامعاتنا الرياضية إلى ما يشبه الإقطاعيات الصغيرة. في كل جامعة “زعيم” يتحكم في دواليب القرار، يوزع المهام، يبارك الترقيات، يعاقب الخارجين عن الصف، ويصنع روايات النجاح الوهمية عبر إعلام مروض. وهناك دوائر ضيقة تُدار فيها القرارات الحاسمة، وغالبًا ما تكون هذه الدوائر بعيدة كل البعد عن الرياضيين أنفسهم، الذين يُفترض أن يكونوا محور كل سياسة رياضية. اللاعبون يُستَخدَمون كبطاقات عبور، ثم يُهمَلون حالما تتغير الظرفية، بينما يبقى “الرئيس” دائمًا هو البطل الوحيد الذي لا يُهزم، مهما خسرنا من ميداليات.
الخطير في كل هذا أن هؤلاء الرؤساء لا يديرون فقط شؤون الجامعات، بل يديرون كذلك شبكات معقدة من المصالح المرتبطة بالمقاولات، العتاد الرياضي، مراكز التكوين، وحتى المشاركة في المنافسات الدولية. بمعنى آخر، هناك مصالح تُنسج بخيوط دقيقة، حيث تصبح الرياضة مجرد واجهة، في حين يتم في الخلف توزيع الغنائم. هكذا، يُبرمج المعسكر في بلد معين لا لضرورته التقنية، بل لأنه يخدم علاقة تجارية ما. تُمنح الصفقات لأطراف محددة لا لأنها الأكفأ، بل لأنها الأقرب. والرياضي الذي لا يدخل ضمن هذا “التخطيط غير المرئي”، فمصيره النسيان أو التهميش.
والغريب أن هؤلاء الرؤساء يُبدون دائمًا قدرة عجيبة على الإفلات من المساءلة. حتى حين تتوالى الفضائح، وتُطرح الأسئلة في البرلمان، وتخرج الصحافة بحصيلة هزيلة، لا أحد يجرؤ على المطالبة الصريحة برحيلهم. بل تُعقد لقاءات تقييمية لا تفضي إلى شيء، وتصدر تقارير “تقنية” لا تسمي الأسماء، ثم تمر العاصفة، فيعود الجميع إلى قواعدهم سالمين، باستثناء أولئك الرياضيين الذين يخسرون أعمارهم، صحتهم، وحلمهم المشروع في تمثيل المغرب بكرامة.
الشارع المغربي لم يعد يقتنع بتبريرات هؤلاء. فحين يكتفي بلد بحجم المغرب بميداليتين فقط في محفل أولمبي شارك فيه ستون رياضيًا في 19 نوعًا من الرياضات، فلا بد أن شيئًا ما عفنًا في الداخل. ليس عيبًا أن نخسر، لكن العيب أن تستمر نفس الأسماء التي صنعت الخسارة، وكأن لا أحد غيرها قادر على القيادة. هذا الإصرار على احتكار الكراسي لا يعني سوى شيء واحد: أن الهدف لم يعد هو خدمة الرياضة، بل خدمة مصالح متشابكة لا مكان فيها للمبدأ أو الروح الرياضية.
ووسط هذا الإحباط العام، ترتفع أصوات تطالب بالقطيعة الجذرية مع هذه العقليات البائدة، وفتح الباب أمام جيل جديد من المسيرين القادرين على وضع المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار. جيل شاب، نزيه، متمكن من آليات التسيير المعاصر، ومنفتح على العالم، يؤمن بالكفاءة لا بالولاء، ويجعل من الرياضة أداة تنمية حقيقية لا وسيلة للاسترزاق والتموقع. أما الذين عمروا طويلاً، فربما حان وقت أن يفهموا أن الكرسي ليس ميراثًا أبديًا، وأن الرياضة لا يمكن أن تنهض إلا حين يُفكّ قيدها من أيدي أولئك الذين جعلوا منها وسيلةً للاستدامة الشخصية بدل أن تكون وسيلة لصناعة الأبطال.
لقد آن الأوان لنطرح السؤال بصوت عالٍ: إلى متى سنقبل بأن تكون جامعاتنا الرياضية حدائق خلفية لشخصيات أكل الدهر على وجودها وشرب؟ ومتى سنمنح الفرصة للأفكار الجديدة لتنبُت في تربةٍ لم يعد ينفع فيها إلا الحرث من الجذر؟ لقد تعب الرياضيون من خطابات التجميل، وتعب المواطنون من مشاهد التكرار. حان وقت التغيير. ولا تغيير دون رحيل أولئك الذين لا يرون في الرياضة إلا وسيلة للبقاء في الضوء، حتى وإن أُطفئت كل الأنوار حولهم.
وأخيرًا، نؤكد أنه حين يعلم الفرد أنه فاشل ويتشبث بكرسي الرئاسة، فهذه ليست أنانية عابرة… بل خيانة مكتملة الأركان، بطعم الوجع وعبء الوطن المُعلّق في عنق من لا يستحق.