سياسةخارج الحدود

كوبا التي عُلّقت على جدار الثورة: حين تُصبح الشعارات جدارًا للعزلة

إعداد وقراءة نقدية: ضربة قلم

رغم مرور أكثر من ستة عقود على قيام الثورة الكوبية بقيادة فيديل كاسترو، لا تزال كوبا حبيسة الشعارات الأولى: حصار اقتصادي خانق، مؤسسات جامدة، وشعب يقاوم بصبر لا يخلو من مرارة. دولة تدور في حلقة مفرغة، تراوح مكانها  -إن لم نقل تتراجع- بينما دول أخرى عانت من الحصار والعزلة نفسها، لكنها استطاعت القفز على المتاريس وحققت طفرات تنموية لافتة.

منذ 1962، فرضت الولايات المتحدة حصارًا اقتصاديًا على كوبا شمل كل شيء: التجارة، التحويلات المالية، وحتى المعدات الطبية. هذا الحصار لا شك أثر بعمق على الاقتصاد الكوبي، وأعاق تطوره، لكن التساؤل المشروع اليوم هو: هل الحصار وحده مسؤول عن الجمود؟ ألم يكن بالإمكان البحث عن حلول بديلة كما فعلت دول أخرى؟

كوبا استثمرت في التعليم والصحة، ونجحت في تكوين رأسمال بشري مثقف ومؤهل، لكنها فشلت في خلق مناخ اقتصادي قادر على استيعاب هذا الرأس المال البشري. بقيت الدولة تتحكم في كل شيء، من توزيع البيض إلى أسعار الحلاقة، وسط منظومة تعادي المبادرة الفردية وتُقدّس التخطيط المركزي وكأن العالم لم يتغير منذ السبعينيات.

كوبا اليوم يبلغ عدد سكانها نحو 11.2 مليون نسمة، لكن المثير أن حوالي 2 مليون كوبي يعيشون خارج البلاد، أغلبهم في الولايات المتحدة، وخصوصًا في ولاية فلوريدا، إضافة إلى جالية متزايدة في إسبانيا، نظرًا للروابط التاريخية واللغوية. في السنوات الأخيرة، تصاعدت موجة الهجرة بشكل لافت، حتى أن عام 2022 وحده سجّل رقمًا قياسيًا في عدد الكوبيين الذين غادروا البلاد عبر طرق شرعية وغير شرعية، ما يعكس فقدان الأمل الداخلي أكثر من مجرد حلم خارجي.

إسبانيا تحولت إلى محطة جديدة لهؤلاء الكوبيين الهاربين من الانسداد الاقتصادي، حيث يُقدَّر عدد الكوبيين الحاملين للجنسية الإسبانية أو المقيمين فيها بعشرات الآلاف، وأغلبهم من الشباب المتعلم الباحث عن فرص في بيئة أكثر انفتاحًا.

لنفهم عمق الأزمة، لا بد من المقارنة مع دول واجهت ظروفًا أكثر دموية أو قسوة، لكنها قررت أن تتطور بدل البكاء على الأطلال. فيتنام، مثلًا، عانت من حرب طاحنة دمرت بنيتها التحتية وقضت على الملايين، لكنها منذ 1986 تبنت إصلاحات اقتصادية فتحت أبوابها للاستثمارات والسوق، دون أن تتخلى عن جوهر النظام السياسي. النتيجة: فيتنام أصبحت واحدة من أسرع الاقتصادات نموًا في آسيا، بينما لا تزال كوبا تدور في فلك البطاقات التموينية وشكاوى نقص البنزين.

أما إيران، فرغم خضوعها لعقوبات أمريكية وأوروبية منذ عقود، طورت صناعات محلية قوية، واستثمرت في التكنولوجيا النووية والصناعات البتروكيماوية، وخلقت شبكات اقتصادية بديلة. في حين اكتفت كوبا بلعب دور “الضحية الأخلاقية” دون بناء قاعدة اقتصادية حقيقية تُقلّص من آثار الحصار الخارجي.

ثم هناك رواندا، التي خرجت من واحدة من أبشع الإبادات الجماعية، لكنها اختارت طريقًا تنمويًا مختلفًا: مكافحة الفساد، الاستثمار في التكنولوجيا، تعليم النساء، وتحويل كيغالي إلى واحدة من أنظف وأكثر العواصم استقرارًا في إفريقيا. أما كوبا، فظلت تدير البلاد بعقلية الحرب الباردة، رغم أن العالم تغيّر كليًا.

الكوبيون شعب مثقف ومعتز بتاريخ ثورته، لكنهم سئموا الازدواجية بين الخطاب والواقع. شبابهم لا يحلم بالبقاء، بل بالرحيل إلى ميامي أو مدريد. لقد تحوّلت الثورة إلى طقس رسمي، تُحتفل به النخب، بينما يعاني الناس في طوابير الخبز والوقود.

ربما لم تعد المشكلة في الحصار، بل في الحصار الذاتي: فكر اقتصادي مغلق، قيادة ترفض المراجعة، ونظام يقدّس الثبات أكثر من الإنجاز. الحل لا يكمن فقط في رفع الحصار الأمريكي، بل في رفع الحصار الداخلي عن المبادرات، وخلق بيئة تسمح للإبداع بأن يُثمر، وللكفاءات بأن تعود من المنافي.

فالثورة التي لا تتطور، تموت. والدولة التي لا تتغير، تُستبدَل. وكوبا -إن أرادت مستقبلًا- فعليها أن تتعلم من فيتنام، وتستفيد من دروس رواندا، وتكفّ عن الاكتفاء بدور “الضحية الأنيقة”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.