كيف تحولت الأحزاب السياسية في المغرب إلى أدوات تحكمية بيد النظام؟

ضربة قلم
في المغرب، لا يخفى على أحد أن الحياة السياسية ليست محكومة فقط بمؤسسات تشريعية أو انتخابات حرة تتيح للمواطنين ممارسة حقهم في اختيار ممثليهم. بل إن الواقع يكشف أن الأحزاب السياسية، التي من المفترض أن تكون نواة التعددية السياسية والتنافس الديمقراطي، أصبحت، في الكثير من الحالات، مجرد أدوات في يد السلطة الحاكمة، وتخضع لرقابة غير مباشرة تهدف إلى ضمان استقرار النظام السياسي.
منذ الاستقلال، سعى المغرب إلى بناء دولة حديثة تقوم على أسس ديمقراطية، لكن سرعان ما تبين أن الأحزاب التي نشأت بعد الاستقلال، رغم تنوع توجهاتها وبرامجها، لم تكن قادرة على إحداث التغيير المنشود في بنية النظام السياسي. بل إن هذه الأحزاب سرعان ما تحولت إلى أدوات للسيطرة والتحكم أكثر من كونها قوى سياسية تسعى لتحقيق تمثيل حقيقي للمواطنين.
في البداية، كان يُعتقد أن الأحزاب ستكون هي الجسر الذي يعبر من خلاله الشعب المغربي إلى الديمقراطية الحقيقية. لكن ما حدث كان مختلفًا تمامًا. فمع كل استحقاق انتخابي، كان هناك تدخل مباشر وغير مباشر في مسار العملية السياسية، مما جعل الأحزاب تتأقلم مع واقع جديد، حيث أصبحت الخيوط الحقيقية للسلطة في يد أجهزة تتجاوز المؤسسات السياسية التقليدية. أصبح هذا الوضع نمطًا مستمرًا، تتوزع فيه الأدوار بين الأحزاب التي تعمل كمجرد “مكملات” للنظام، ولا تملك فعلاً القوة الحقيقية على اتخاذ القرارات الكبرى.
هذه الأحزاب، رغم ما تبدو عليه من تعددية، لا تعكس في الغالب إرادة حقيقية للشعب. بل في كثير من الأحيان، كانت تمثل أداة لتمرير السياسات الرسمية، وتقديم صورة مزيفة من المشاركة السياسية. في اللحظات التي كان يتم فيها تشكيل حكومات جديدة، كانت الاختيارات تُدار من وراء الكواليس لتجنب أي مفاجآت قد تهدد استقرار النظام. الأحزاب، في هذه الحالة، تصبح جزءًا من المشهد الذي يروج لشرعية النظام، لكن دون أن تملك القدرة الفعلية على التأثير في مجريات الأمور.
في العقود التي تلت الاستقلال، أظهرت الأحزاب نفسها إما مُوافقة أو متصالحة مع الوضع القائم، إلا من بعض الاستثناءات النادرة التي حاولت انتقاد بعض السياسات. لكن مع مرور الوقت، أصبح واضحًا أن النظام الحاكم كان يتحكم في الخيارات السياسية، بل وكان يعمل على “استيعاب” أي معارضة قد تظهر. لم يعد للنقد السياسي أو البرامج المعارضة أي قدرة حقيقية على التأثير، بل كانت تُمنح بعض الظهور في إطار مدروس، في الوقت الذي كان فيه صاحب السلطة الفعلية هو الذي يحدد كل شيء.
علاوة على ذلك، كانت هناك محاولات لإعادة تشكيل الأحزاب بطرق تضمن ولاءها للنظام، مما سمح للسلطة بالحفاظ على السيطرة عبر توازنات دقيقة بين القوى السياسية. مع كل انتخابات، تتبدل الأسماء وتظهر أحزاب جديدة، لكن تبقى العلاقة الجوهرية كما هي، حيث يصبح التحالف مع النظام هو الطريق الأقصر إلى السلطة. وهذا كان يؤدي إلى نشوء تنافس بين الأحزاب الموالية، لكنه تنافس يبدو بعيدًا عن أي تحول سياسي حقيقي.
وفي ظل هذا الوضع، كان الحزب لا يعبر عن حقيقة التوجهات السياسية للمواطنين، بل كان مجرد واجهة لمصالح النظام. فبدلًا من أن تلعب الأحزاب دورها في بناء المجتمع من خلال برامج تمس الواقع الحي للمواطنين، فإنها كانت تُستخدم بشكل رئيسي لتأدية وظائف أخرى، مثل امتصاص الاحتقان الاجتماعي، أو منح الانطباع بوجود تعددية ديمقراطية رغم غياب التغيير الحقيقي.
كان من المفترض أن تشهد البلاد تطورًا ديمقراطيًا حقيقيًا يعتمد على الشفافية والعدالة. لكن بدلاً من ذلك، ظلت الأحزاب السياسية عالقة في دائرة نفوذ النظام، مما جعل التغيير أمرًا بعيد المنال. الأحزاب، التي كان يُفترض أن تكون قوة دافعة للتغيير، باتت في الواقع أداة للتحكم السياسي، تحافظ على الاستقرار من خلال تمثيل “البدائل” في الشكل فقط، دون أن تملك القدرة على اختراق حاجز السلطة الفعلي.
اليوم، ومع استمرار هذه الديناميكية، يظهر المشهد السياسي في المغرب وكأنه محكوم في إطار مغلق، حيث تبدو الأحزاب كأنها أدوات في يد النظام، تقوم بدور استراتيجي هدفه الحفاظ على الهيمنة والتحكم. ورغم التطورات التي قد تطرأ هنا أو هناك، تظل الأحزاب السياسية في المغرب بعيدة عن أن تكون قوة تغيير حقيقية، حيث يتم استخدامها للشرعنة وخلق انطباع بالمشاركة السياسية، لكن تبقى السلطة الحقيقية في مكان آخر.
إن تحليل هذا الوضع يكشف حقيقة مؤلمة، وهي أن التعددية الحزبية في المغرب، التي من المفترض أن تكون معبرة عن إرادة الشعب، أصبحت في الكثير من الحالات أداة لتدعيم النظام القائم وليس لتحديه.