مجتمع

كيف تكتب عموداً دون أن تقول شيئاً… وتُصفّق لنفسك أيضاً!

م-ص

لو سمحتم، دعونا نكتب عموداً، أو على الأقل نحاول أن نبدو وكأننا نكتب عموداً. لا تهم التفاصيل كثيراً، فالعنوان وحده كفيل بأن يوحي بالعمق، حتى وإن كانت الفكرة عائمة، تتمايل كما تتمايل الكرة بين أقدام لاعب ماهر، يبالغ في المراوغة، لا لشيء إلا ليرينا أنه يستطيع أن يراوغ. الكرة هنا هي اللغة، أما الملعب فربما يكون هذه المساحة البيضاء التي نملؤها بكلمات لا تمسك منها سوى الخفة، الخفة التي تسبق المعنى ولا تصل إليه.

قد نتحدث عن لاعب، لاعب بارع في السيطرة على الكرة، يرقص بها كما يشاء، لكنها رقصة بلا هدف، بلا تسديدة، بلا تمريرة. متعة خالصة؟ ربما. ملل مقنّع؟ غالباً. نحن أيضاً نكتب بهذه الطريقة. نحاور الكلمات، نغوي الجمل، نُركّب العبارات الواحدة فوق الأخرى، ونملأ الفضاء بسجع لا يقول شيئاً. هل هذه كتابة؟ نعم، ولا. هل هو عمود؟ إن نشرناه بصورتنا أم لا.

وإذا أردنا أن نختم، نختم بهذه الطريقة. “ها قد استوى العمود”. نعم، استوى كما تستوي الوجبة التي لا تحتوي على أي مكونات حقيقية، مجرد توابل ونكهات صناعية. لكنه مع ذلك يُقدّم على المائدة. يُقرأ، يُمرّر، وربما حتى يُعلق عليه البعض بجدية زائفة.

وها هو الدرس: أن تكتب دون أن تقول، أن تملأ السطور دون مضمون، أن تهمس في آذان أذناب المخزن وتقول لهم: نحن مثلكم، نلعب لعبة بلا قواعد، نطبل دون موسيقى، نكتب دون معنى. لكن الفرق بيننا، إن وُجد، أننا نعرف أننا نكتب دون معنى، أما أنتم فتوهمون أنفسكم بأن كل ما تكتبونه وحيٌ نازل من أعلى الدواوين. أنتم ترقصون وتطبلون للمخزن، كأنكم في موسم دائم للهيلولة السياسية، تصرخون بالفرح في وجه الخراب، وتوزعون ابتسامات الانتصار في لحظة انكسار الأمة. أنتم من يصنع المجد الزائف بمداد الخنوع، تصطفون كما تصطف الطبول في المهرجانات، لا لشيء إلا ليُقال إن الحفل قائم، وإن السلطة سعيدة.

ونحن؟ نحن نأكل الشوك، نمضغه جيداً، نحاول أن نلخص مرارته في كلمات، ثم نقدمه على هيئة عصير، لعل القارئ يشربه وهو لا يدري مما صُنع. هم يشربون نخب الولاء من كؤوس من زجاج معشق بالخوف، ونحن نرشف قهوتنا الباردة على أرصفة الانتظار. نكتب عموداً، لا ليُقرأ، بل فقط كي نثبت أننا ما زلنا نكتب. هم يكتبون كي يُمنحوا تصريحاً جديداً بالمشاركة في حفلة التهريج المقبلة. كل واحد منهم يتفنن في طرق الطبل، في حين يتولى المخزن توزيع النوتة.

ثم يسألونك: ما الجديد؟ فترد، لا جديد. نفس الأسماء تكتب، نفس الأقلام تدور، نفس الأصوات تعلو وتخفت حسب المصلحة. حتى الحبر صارت له رائحة بلا لون، والكلمات تبدو كالصور القديمة، باهتة، مشروخة، محفوظة في ألبوم السلطة. أما “العمود”، ففي شكله المعاصر، لم يعد عموداً يسند شيئاً، بل مجرد عصا يتكئ عليها بعضهم كي لا يسقط في هاوية النسيان.

وها نحن، مرة أخرى، ها قد كتبنا. دون أن نقول شيئاً مفيداً. لا معلومة، لا تحليل، لا موقف. مجرد كلمات تتمايل مثل لاعب يحاور الكرة من أجل الفرجة فقط، لا من أجل الهدف. هل أزعجنا أحداً؟ لعلنا فعلنا. هل فهم أحد شيئاً؟ لعل أحدهم تظاهر بذلك. هل سيستقيم هذا النص في ميزان الصحافة؟ بالتأكيد لا، لكنه يستوي على نار الصمت، ويُقدّم بارداً للذوق الميت. وها قد استوى العمود… مرة أخرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.