مجتمع

كيف تنجح في بلد يُعاقب الناجحين؟

ضربة قلم

أن تكون ناجحًا في بلد متخلف، فهذه ليست مجرّد مهمة صعبة، بل هي مغامرة وجودية قد تدفعك إلى الشك في مفاهيم النجاح ذاتها. النجاح في هذه البيئة لا يشبه النجاح في بلدٍ طبيعي تحترم فيه القوانين، تُكافأ فيه الكفاءة، ويُفسح فيه المجال للاجتهاد والمثابرة. هنا، في هذه الرقعة من العالم التي يُعاب على من يقرأ، ويُتّهم من يُفكر، ويُستهدف من يشتغل بصمت، النجاح ليس تسلقًا سلمًا عادلاً، بل هو قفز بين حفر، وزحف في منحدرات موحلة، وارتجاف في الظل حتى لا تراك العيون التي تتقن القصقصة أكثر من البناء.

في البلد المتخلف، عليك أولًا أن تتقن فن التمويه. لا تُظهر كثيرًا من الذكاء، لأن الذكاء مثير للريبة. لا تكن مبادرًا أكثر من اللازم، لأن المبادرة قد تُفسر على أنها مؤامرة. لا تظهر الحماسة المفرطة للعمل، فقد تُتهم بالتصنّع أو بمحاولة تلميع صورتك على حساب الكسالى المزمنين. النجاح في هذا السياق يتطلب أن تكون مثل الثعلب: حاضرًا، متيقظًا، لكن هادئًا، لا تُحدث ضجيجًا. اجتهد، لكن من وراء الستار. ابنِ مشروعك، لكن لا تدع أحدًا يعرف تفاصيله. كُن قويًّا، لكن لا تُظهر عضلاتك، فهذه قد تجر عليك ضغائن لا حصر لها.

ثم عليك أن تتعلم كيف تحمي ظهرك. النجاح هنا ليس فقط أن تتقدّم، بل أن تنجو. تنجو من الحسد، من القيل والقال، من العراقيل المُفبركة التي تُوضع في طريقك فقط لأنك حاولت أن تفعل شيئًا مختلفًا. في البلد المتخلف، هناك دائمًا من يعتقد أن نجاحك يهدّده، حتى إن لم يكن يعرفك. الناس هنا، للأسف، لا يرون النجاح كأمل، بل كإهانة شخصية. لذا، كل خطوة تخطوها تحتاج معها درعًا وهميًا، وابتسامة زائفة، وردودًا دبلوماسية على أسئلة لا معنى لها.

ثم لا تنسَ أهم درس: يجب أن تبني تحالفات. لا أحد ينجو وحده في هذه الأدغال الاجتماعية. ستحتاج إلى سند، لا من النوع الذي يُعينك فعلاً، بل من النوع الذي يشهد لك وقت المحنة، أو على الأقل لا يزيد الطين بلّة. النجاح في بلد متخلف هو أيضًا فن إداري يومي، يتطلب أن تعرف من تكلّمه، ومتى تصمت، ومتى تتظاهر بأنك لا تفهم.

ولأنك لا تعيش في كوكب مثالي، فستحتاج إلى قليل من “الذّكاء الاجتماعي الماكر”. هذا لا يعني النفاق، لكنه نوع من اللباقة الملتوية التي تجعلك تعبر الألغام دون أن تُحدث انفجارًا. كُن طيّبًا… إلى أن يثبت العكس. كُن كريمًا… ولكن احذر من الذين لا يشبعون. كُن منفتحًا… لكن لا تفتح قلبك لكل أحد.

وفي خضمّ هذا كله، حاول ألا تفقد نفسك. هذا هو التحدي الأكبر. أن تنجح في بلد متخلف دون أن تتحول إلى مخلوق متخلف داخليًا، أن تظل نظيفًا في وسطٍ يغريك بالقذارة، أن تبني دون أن تسطو، أن تصعد دون أن تدوس. هذا هو النجاح الحقيقي. النجاح الذي لا تُعلّق عليه شهادات ولا يُحتفل به في المنابر، لكنه النجاح الذي يجعلك تنام ليلك مرتاح الضمير.

والأصعب من كل ذلك؟ أن تحافظ على إنسانيتك. أن تبقى ابن الناس وأخاهم وصديقهم وجارك، رغم أنك صرت أكثر منهم قدرة على العطاء. أن تتذكّر الذين ساعدوك عندما كنت لا تملك شيئًا. أن لا تنسحب إلى برجك العاجي، فتغدو نسخة أخرى من المنظومة التي كنت تسعى لتجاوزها. فالنجاح في بلد متخلف، للأسف، قد يُفرغك من جوهرك قبل أن يُكللك بالتصفيق.

فإذا نجحت رغم كل هذا… فليس لأنك فقط تستحق، بل لأنك مقاتل من طراز نادر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.