الشأن المحليسياسة

كيف نحارب “الشفّارة” في المغرب؟

ضربة قلم

كثيرة هي التوقيفات التي طالت رؤساء جماعات ترابية، وكثيرٌ منهم لم يحاكموا بعد. بل إنّ بعضهم لم يعودوا رسميًا إلى مكاتبهم، لكنهم اختاروا بأنفسهم “الخلف” الذي يُنفّذ التعليمات من وراء الستار، يسير الجماعة في الكواليس كما يُحرّك العازف الوتر الخفي في أغنيةٍ حزينةٍ تُسمّى “التنمية المحلية”.
الوجوه تغيّرت ظاهريًا، لكن التوقيع نفسه، والختم نفسه، والعقود تُبرم بنفس الطريقة، وكأن التوقيف الإداري لم يكن إلا فاصلًا قصيرًا في مسلسل طويل عنوانه: “نسرق… لكن بنظام”.

هؤلاء “الشفّارة” لا يحتاجون إلى مقعدٍ في الجماعة كي ينهبوا، يكفيهم أن يُمسكوا بخيوط القرار من بعيد، عبر أقارب أو مساعدين أو موظفين تربّوا في حضنهم الإداري.
هم كالأشباح، لا يظهرون في الصور، لكن آثارهم باقية على كل وثيقة، وعلى كل مشروع ناقص، وعلى كل طريق لا تصل إلى نهايتها.

الفساد عندنا… مؤسسة لا فعل فردي

الفساد في المغرب لم يعد حالة طارئة، بل تحوّل إلى ثقافة إدارية تحكم تفاصيل الحياة العامة.
هناك “شفّار الميزانية”، و”شفّار الصفقات”، و”شفّار التوظيفات”، و”شفّار الصمت”، أي ذاك الذي يتقاضى أجراً مقابل أن لا يرى شيئاً.
ولأن هؤلاء لا يعيشون في فراغ، فهم محاطون بشبكة من الحماية المتبادلة: مسؤول يغطّي على مسؤول، منتخب يساوم موظفاً، وصحفي يلمّع الصورة مقابل دعوة أو إعلان مدفوع.

الكل يعرف الكل، والكل يستفيد من الكل، والنتيجة: نظام مغلق محكم لا تخرقه سوى الكوارث أو الفضائح التي تخرج عن السيطرة.

الدولة تعرف… لكن الوقت دائماً “غير مناسب”

حين تتفجر قضية فساد، نسمع نفس الجملة تتكرر: “التحقيق جارٍ، والعدالة تأخذ مجراها”.
لكن الحقيقة أن العدالة تمشي على عكازين، تتقدم خطوة وتتراجع خطوتين كلما اقتربت من الأسماء الثقيلة.
ولأننا مقبلون على انتخابات جديدة، فكل حزب يحاول تأجيل الحساب إلى ما بعد “المعركة الانتخابية”، أي بعد توزيع الغنائم من جديد.

العجيب – وكما ذكرنا- أن بعض الرؤساء الموقوفين ما زالوا يسيرون جماعاتهم عن بعد، وكأنهم “مدراء تنفيذيون للفساد”، يوقّعون عبر الوسطاء ويقررون عبر الهاتف.
السلطة الوهمية ما تزال تعمل بالفور يا شيفور، بينما المواطن ينتظر إصلاح طريق أو تعبيد زقاق.

“الشفارة” لا يخافون من القانون… بل من غياب التغطية

المشكل ليس في النصوص القانونية، بل في موازين القوى.
القانون عندنا صار مثل المطر الموسمي: ينزل فقط على المناطق المكشوفة.
الفاسد لا يخاف من المحكمة، بل يخاف من أن تسحب منه المظلة التي تحميه.
حين تسقط المظلة، يسقط الرجل، وحين تُفتح الملفات، نكتشف أن اللص لم يكن يعمل وحده، بل كان جزءاً من منظومة محكمة: منتخبون، موظفون، وسماسرة، وأحياناً من يسمون أنفسهم أتقياء أو “فاعلين جمعويين”.

الفساد في زمن “الانتخابات”

نقترب من سنة انتخابية جديدة، والوجوه القديمة تتهيأ لتلميع نفسها من جديد.
شعارات التنمية ستعود إلى الواجهة، والوعود ستُوزّع بالمجان، والمجالس التي التهمت الملايير ستقدم نفسها كمنقذة جديدة.
لكن المواطن البسيط لم يعد يصدق الوجوه التي لا تتغير. لقد فهم أن الفساد في المغرب لا يُستأصل ببيان انتخابي ولا بخطاب منمّق، بل بمنظومة محاسبة حقيقية تبدأ من القاعدة وتنتهي في القمة.

وحتى يتحقق ذلك، يجب أن يتوقف “التواطؤ الشعبي” الذي يجعل بعض الناس يبررون سرقة المال العام بعبارة: “آش غادي يدير، حتى هو خاصو يعيش”، وكأن الفساد صار حقاً اجتماعياً مكتسباً.

كيف نحارب “الشفّارة” فعلاً؟

  1. الشفافية المُلزمة لا الشعاراتية:
    كل درهم عمومي يجب أن يكون قابلاً للتتبع إلكترونيًا، وكل صفقة يجب أن تُنشر تفاصيلها للعموم في منصات يعرفها الجميع.

  2. القضاء المستقل فعلاً لا هيكلياً:
    لأن العدالة التي تخاف من الأسماء الكبرى لا تُسمى عدالة، بل مسرحية طويلة المدى.

  3. إصلاح قانون الإثراء غير المشروع:
    فالمسؤول الذي تضخمت ثروته بعد تولي المنصب، عليه أن يثبت مصدرها، لا أن يبتسم في حفل تدشين طريق لم تُنجز بعد.

  4. الرقابة الشعبية عبر الإعلام والمجتمع المدني:
    حين تُسكت الصحافة، ينتعش الفساد. وحين يُخنق المجتمع المدني، يتحول الصمت إلى غطاء مثالي للنهب.

  5. المحاسبة الانتقائية يجب أن تنتهي:
    لأن العدالة التي تطال الضعيف وتغضّ الطرف عن المتنفذ ليست عدالة، بل تواطؤ.

خلاصة: الفساد لا يُحارَب بالشعارات بل بالجرأة

الفساد في المغرب لم يعد يحتاج إلى لجان جديدة، بل إلى شجاعة سياسية حقيقية.
الشفّارة لا يخافون من الخطب، بل من الفعل.
وإذا كنا فعلاً نريد مغرباً جديداً، فيجب أن نُعلن الحرب على الفساد لا في الصحف، بل في الواقع اليومي، في الإدارة، في الجماعات، في الصفقة الأولى قبل المشروع الأول.

البلد لا تنقصه الكفاءات، بل تنقصه النيّة في كسر دائرة الحماية التي جعلت من بعض “الشفّارة” رموزاً لا تُمسّ.
فلا إصلاح يُمكن أن يبدأ ما دام الفاسد ينام مطمئناً، والمواطن الشريف ينام مهموماً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.