كيف يغفر القلب حين تضيق الحياة؟

م-ص
حين يغشى وجه الزمن أطياف الشيب، ونقف على حافة تجاربٍ عميقة، يخذلنا الندم أحيانًا، فتنهشنا كآبةٌ صامتة. في مجتمعنا المغربي، حيث تتشابك الأعراف التقليدية مع رياح الحداثة، ندرك أن طفولتنا المبهمة باتت سرابًا لا يُدرك، وأن لحظات البراءة الأولى التي كنا نعيشها تحت ظلال النخيل والأزقة القديمة لم تعد سوى نزهةٍ في ذاكرةٍ متعبة.
وما بين الأمس واليوم، تنفتح أمامنا مرآة الذات، تنطق بأسرارٍ كنا نظنها مدفونة، فنعرف حينها أننا ارتكبنا الكثير من الأخطاء: لحظات خدعنا فيها ردود أفعالنا، ومواقف آثرنا فيها الصمت حين كان للحقيقة أن تُقال.
ورغم الفهم العميق لما مضى، تظل الطبيعة البشرية تنبض بمنسوجاتها الخاصة؛ فتفجرنا أحاسيس جياشة، أو يتملكنا مزاج سريع التبدل، فتتقاذف الكلمات من أفواهنا كطلقاتٍ نارية.
وفي مجتمع مثل مجتمعنا المغربي، حيث للكلمة وزن الذهب، وللسمعة قيمة رأس المال، فإن لكل لفظٍ صدىً عميقًا، ولكل موقفٍ أثرًا ممتدًا.
والأعجب أن أعمق الندم لا يولد من فعل الخير؛ ذلك النبض الداخلي الذي يدفعنا إلى معانقة المحتاج، أو مد يد العون لجارٍ أو صديقٍ ظننا أنه يستحق منا الوقوف إلى جانبه. فقد علمتنا التجربة أن بعض النفوس، وإن امتُحنت بالجميل، قد ترد بما لا يليق: تسيء إلى النوايا، أو تستهين بالعطاء، فتنهال الشتائم على عمل الخير كما تنهال على الشجرة المثمرة.
لكننا، بطفرة ضميرٍ لا تخبو، لا نندم على هذا السخاء، لأنه خلاص النفس وصقل الروح.
أما الندم الحقيقي، فهو ذاك الصوت الخافت الذي يرنُّ في دواخلنا حين نستنكر نقصًا أو زلةً في رجل أو امرأة غمرناهم يومًا بالعطاء أو بالنصح. نندهش حين نرى أثر لمستنا الجارحة: كيف تنبت في نفوسهم جروح لا تلتئم، وكأن كلماتنا كانت سهامًا اخترقت صدورهم بحق أو بغير حق.
ولهذا، تصير مراجعة الذات مغامرةً يومية؛ ليس فقط لأنها ثقافة متأصلة، بل لأن تداخل العلاقات الاجتماعية يتطلب يقظة مستمرة.
فالسوق الشعبي يعلمنا التسامح، وحكايات الشاي على عتبات الدور تذكرنا بقيمة الاستماع. وإن لم نعتنِ بتلك الشظايا الصغيرة في أنفسنا، فإنها تتجمع لتصبح جبلًا لا يُطاق، نرتمي تحته يومًا ونخشى أن ينهار فوقنا دون إنذار.
ولأننا نعيش مرة واحدة، نكتشف في نهاية المطاف أن الزمن نعمة وثمرة، لا تصحّ إلا بالصفح عن النفس والآخرين.
وأن الفعل الخيري لا يندثر مع الزمن، بل يظل قنديلًا يتوهج في قلب تاريخنا الشخصي والجماعي. فما أجمل أن ندرك، في آخر المطاف، أن الإنسان لا يكتمل إلا بقدرته على الاعتراف والصلح، وأن يسجل في ذاكرة هذا المجتمع الطيب؛ ليس فقط بالخطأ الذي ارتكبه، بل بالأفضل الذي صنعه رغم أخطائه.
يقال إن الحياة لا تستحق المعاناة، وهو قول صحيح، لكن عواطفنا تخوننا أحيانًا فتقودنا إلى دوائر من الألم لا نريد الخوض فيها.
نتشبث بذكريات موجعة، وكأننا نرتضي الألم تذكرةً تؤكد أننا ما زلنا أحياء؛ فتتراءى لنا صور الماضي بحدةٍ أكبر، ونكرر العبارات التي تدمع لها الأعين في جلسات السمر الليلية.
لا نكتفي بما فات، بل نرتدّ إليه كما يرتدّ الغريق إلى الحبل، آمِلين في منقذٍ لا يأتي. وعندما نقتنع أخيرًا بأن الصفح عن الذات والقلب هو خلاصٌ لا يقف عند حدود الاعتذار للآخرين، نلمس أخيرًا ذاك السلام الذي طالما حلمنا به.
عندها يهدأ انفجار عواطفنا، ونفهم أن الحياة، رغم قسوتها الظاهرية، تستحق أكثر من مجرد الألم: تستحق أن نحبها، نضحك في وجهها، ونمنحها حسن الظن قبل أي شيء آخر.