مجتمع

الدار البيضاء: حيث تُركن سيارتك قانونيًا وتُسحب بلا رحمة، وتُشيد الترامواي فوق أنقاض التجارة

ضربة قلم

أهلاً بك في مدينة الدار البيضاء، أو كما كانت تُعرف سابقًا بـ”الدار الكبيرة”، أما اليوم، فهي أشبه بخزان كبير تتقاذف فيه الأمواج كل من حاول أن يرسو فيه بسفينة المنطق. جولة بسيطة وسط العاصمة الاقتصادية كافية لتوقظك من أحلام الكارت بوستال التي لطالما رسمتها المجلات العقارية ومكاتب التسويق الحضري. هنا، كل شيء ممكن: أن تنام على ضجيج وتستيقظ على حفرة، أن تخرج لقضاء غرض بسيط فتنتهي بتهمة عرقلة السير، أو أن تركن سيارتك قانونياً وتعود لتجدها في معتقل حديدي يُدعى المحجز الجماعي، كما لو أنك تجرأت على المسّ بقدسية شارع لا إشارة فيه تقول لك “إيّاك أن تثق”.

خلف بنك المغرب، في زقاق بلا اسم، بلا روح، بلا رصيف حتى، تكمن واحدة من أعظم مقالب الزمان: تركن سيارتك، تؤدي الواجب عبر آلة تشبه شيئاً من عصر التكنولوجيا السويسرية، تعود بعد نصف ساعة فتجد الهواء مكان السيارة، وجيرانك من الواقفين ينظرون إليك كما لو أنك ضحية جديدة انضافت لقائمة الشهداء المدنيين. المحجز الجماعي هناك، خلف جدار البيروقراطية، ينتظرك بابتسامة صفراء، وبفاتورة تحمل في طياتها دروسًا في الاقتصاد الشعبي، حيث كل تأخير يحسب بالأيام القمرية، وكل نقاش مع الموظف يحتسب كطلب إعادة نظر في قوانين نيوتن للجاذبية.

ثم تتجه إلى شارع محمد الخامس، حيث صليل عربات الترامواي لا يوقظ المدينة من سباتها، بل يزيدها ترنحاً. ذات شارع كان فيما مضى شرياناً ينبض بالحياة، واليوم بات يشبه ممرات المستشفيات: أبيض، بارد، صامت، لا يشتري فيه أحد شيئًا إلا الصمت. المتاجر أغلقت أبوابها، لا لعدم الجودة، بل لغياب الزبون الذي اختفى مع مجيء الترام، وكأن المدينة قررت أن تعاقب كل من له طموح في التجارة الحرة بحافلة كهربائية تسير بصمت، ولكن تخلف خلفها ضجيج الإفلاس.

تخيل تاجراً صغيراً، استأجر محلاً بمليوني سنتيم في الشهر، صرف على ديكور “مودرن” يعكس روح البيضاء العصرية، جلب منتجات مغربية تقليدية ليُرضي ذوق المارين من السياح أو حتى المحبين للبلدي الأصيل. ثم جاء “الترام”. لا أماكن لوقوف السيارات، لا ممرات للمشاة، والكل يجري ليصل لمحطته، لا وقت ليرى واجهة المحل، ولا وقت ليدخل ويسأل. جلس التاجر خلف طاولته الخشبية يتأمل المصابيح التي اشتراها من تركيا ويقول لنفسه: “لمَ لم أفتح محلاً لبيع قطع الغيار، على الأقل كان سيسألني أحدهم عن سعر مفتاح إنجليزي؟”.

الدار البيضاء اليوم هي اختبار حقيقي لقدرة المواطن على التأقلم. إما أن تتحول لكائن سائل ينزلق بين الحفر، أو كائن شفاف لا يرى رجال الشرطة ولا يرونه. أن تتحدث بلغة الجسد فقط لأن الكلام لم يعد يقنع أحدًا، وأن تمشي في شارع فيه كل شيء إلا المنطق الحضري. تتخبط المدينة بين طموحات الحداثة وواقع التبليط العشوائي، بين تطبيقات الهواتف الذكية ومجاري لا تفرق بين الشتاء والصيف، وبين شعارات “الاستثمار في الإنسان” ولافتات مكتوبة بخط اليد تقول: “ممنوع الوقوف… إلا للزبائن”.

وهكذا، تستمر الحياة في البيضاء، مدينة لا تُدرّس في كليات التخطيط العمراني، بل تُدرّس في مسرح العبث. مدينة تنتمي للجغرافيا، لكنها لا تعترف بالقوانين الفيزيائية. كل صباح هو امتحان في التحمّل، وكل مساء هو شهادة جديدة في الفلسفة الوجودية. ترانا نضحك، نضحك كثيرًا، ولكننا نعلم جيدًا أننا في الحقيقة نبكي… فقط بكبرياء.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.